مقالات
محكة في
مستقبل النظــام الســياسي في الســودان
د. شمس الهدى إبراهيم
إدريس
(11)
الحكم التركي المصري 1821 - 1885م
بعد
طرد الفرنسيين بقوات بريطانية تركية وانسحاب البريطانيين استولي محمد على الألباني
على الحكم في مصر خدمة الأتراك وهزم المماليك الذين كانوا يحكمون البلاد في ذلك
الوقت وتحصل من الباب العالي في استنبول على اعتراف بمركزه كحاكم (باشا) لمصر،
وكان يحتاج للرقيق لجيوشه والذهب لخزينته ولذا بد له أن السودان مناسب لتحقيق
مطلبه ولاشباع رغبة جنوده الباشبزوق غير النظاميين والمشاغبين في النهب والسلب،
كما كانت له اسباب ثانوية أخري وهي التخلص من المماليك الذين لجاوا إلى دنقلا
وكذلك طموح صادق للتعرف على كل ما يمكن معرفته عن منابع النهر العظيم الذي تعتمد
عليه حياة اراضيه وقد عزم أن يمتلك كل حوض النيل ([1]).
فقرر
أن يتجه لغزو مناطق جنوب وادي النيل. كانت جيوشه مقسمة إلى قسمين، أحدهما بقيادة
ابنه اسماعيل وتم إرساله لمواجهة الفونج والآخر بقيادة صهره الدفتردار ووجهه إلى
احتلال كردفان .
كانت
الصراعات الداخلية والحروب الخارجية مع الحبشة قد أضعفت مملكة الفونج، ومهدت
الطريق لامتداد الحكم التركي جنوباً من مصر1821م وهي السنة التي استولى فيها
الأتراك على مملكة الفونج، ثم أضافوا عليها أراضي جديدة جنوب السودان ودارفور.
فشهد السودان إنشاء أول دولة موحدة([2]).
كانت طبيعة
الحكم التركي عسكرية، وشهد السودان لأول مرة النظام الطبقي الذي كان سائداً في
تركيا ومصر، مما قاد إلى استبداد الحكام، والحاكم مميزعن الرعية والسلطة لا تقاوم([3]).
الهيكل الإداري ونظام الحكم:
شكل الجيش الذي قام بعملية الغزو
أساساً ثابتاً للنظام الإداري فتحول بعد اكتمال الغزو إلى إدارية في بلاد شاسعة
ومضطربة وكان هذا الجيش يتبع رأساً إلى القاهرة، تركزت مهمتهم في استتاب الأمن.
وعقب استقرار الأوضاع بقي الطابع العسكري ملازماً للنظام فكان الإداريون بداية
بالحكمدار (الحاكم العام) عسكريين، وفرض هذا الطابع العسكري نظاماً إدارياً
مركزياً ذا سلطة مطلقة،وكان نظاماً غير مألوف للمجتمع وغريباً على تقاليدهم
وأعرافهم([4]).
تم تقسيم البلاد إلى أقاليم وبكل
إقليم عدد من المديريات، وبكل مديرية عدد من الأقسام، وعلى رأس الهيكل الإداري
حاكم السودان ويسمى حكمداراً يرأس قناصل في المديريات، وللقنصل وكيل([5]).
وله السلطات العليا الإدارية
والتشريعية والتنفيذية والعسكرية، وتغير هذا النظام عندما خشي السلطان العثماني أن
يحاول الحكمدار الانفصال كما حدث في مصرفجاء البديل بألغاء منصب الحكمدار بالمنظم،
وتحديد سلطة كل مدير بثلاث سنوات يستبدل بعدها بآخر، ولكن التجربة لم تحظ بنجاح،
فأعيدت التجربة الأولى (تجربة الحاكم العام) الذي يشرف على حكام الأقاليم.
وهذه القاعدة لم تنساب على الشعب،
وحاولت القيادة المصرية التركية في الفترة الأولى من حكمهم للسودان أن يكون الحكم
امتداد للحكم في مصر وأن تقيم جهازاً للحكم استمد خطوطه العامة من التنظيمات التي
كانت في مصر مع الأخذ ببعض التقاليد المحلية([6]).
واستعاض عنها بالإدارة الأهلية في الوظائف
المسماه مأمور وناظروشيخ، ودخلت أغلب القبائل في منظومة السلطة التركية، حيث يقوم
هؤلاء بجمع الضرائب وحفظ الأمن ومعالجة الخصومات([7]).
وبالتالي أصبح الزعماء والشيوخ هم معبر الإدارة للشعوب والمجتمعات.
عقب ضم سواكن ومصوع والانتشار في
النيل الأبيض جنوباً رأى الخديوي إسماعيل أن يقسم السودان إلى ثلاث مناطق ويحكم كل
واحدة منها حكمدار مستقل واقترح التقسيم الآتي: التاكا ومصوع وسواكن، الخرطوم وكل
مناطق شرق النيل الأبيض، كردفان ودنقلا وبربر وكل الجهات غرب النيل الأبيض ولكن
ذلك التقسيم الثلاثي لم ينفذ وتبقى أهميته في توضيح اضطراب الحكم وسعيه للوصول إلى
صيغة لحكم إمبراطورية مترامية الأطراف كانت إدارتها مهمة شاقة على السلطة المركزية
في الخرطوم وبقيت فكرة اللامركزية تلح على ولاة مصر ثم اتخذ الخديوي اسماعيل
قراراً جاء فيه نزع سواحل البحر الأحمر حتى منطقة بربر وجعلها إدارة مخصوصة
بمحافظة مستقلة تسمى محافظة البحر الأحمر وفصلت في نفس الوقت مديرية بربر لتصبح
مديرية قائمة بذاتها تتبع رأساً للقاهرة ولكن محافظي المديريتين اتهما بالفساد
والاختلاس وعزلا وأعيدت المركزية([8]).
في عام 1881م قسم السودان إلى أربع
حكمداريات هي حكمدارية إقليم وسط السودان وتضم الخرطوم وبربر وسنار وفشودة وخط
الاستواء ومركزها الخرطوم، وحكمدارية إقليم غرب السودان وتشمل دارفور وكردفان وبحر
الغزال ووعاصمتها الفاشر، وحكمدارية شرق السودان وتشمل التاكا وسواكن ومصوع،
وحكمدارية عموم هرر وزيلع وبربرة ويبدو أن تصاعد الثورة المهدية وما صاحبها من
اضطراب حال دون تنفيذ ذلك المشروع تنفيذاً كاملاً([9]).
كان المنهج التجريبي الذي اتبعه
الأتراك في حكم السودان أساساً آخر لنظامهم الإداري، ولكن أدى إلى عدم اسقرار في
الهيكل الإداري للدولة وبالتالي في نظام الحكم.
أخضع نظام الإدارة للحكم التركي
المصري مساحات شاسعة من بلاد السودان وإفريقيا الاستوائية وسواحل البحر الأحمر تحت
إدارة مركزية لأول مرة في تاريخها وأسس ذلك الحكم جهازاً إدارياً بيروقراطياً أصبح
الإطار الذي ضم تلك الاجزاء فشكل أساس وحدتها ولكنها وحدة قائمة على القهر وبقيت
تلك النظم والتقاليد الادارية تتوارثها أنظمة الحكم المتعاقبة في السودان بالذات
تقسيم المديريات والجيش المركزي والجهاز الديواني وبقيت السمات الغالبة على النظام
الإداري التركي المصري هي غربته عن الواقع الرعوي القبلي الذي لم يجد المخاطبة
الواعية لتحويله إلى نسيج قومي متجانس ومتعايش سلمياً.
التحالف مع قيادات المجتمع
ارتبط الحكم التركي ببعض القبائل
الكبيرة في السودان بالمشاركة الفعلية في الحكم، بالإضافة لوجود مصالح اقتصادية
مشتركة([10])،
وبذلك تكون النظم الإدارية المحلية أساساً لقاعدة النظام الإداري([11]).
مما أعطاها قاعدة اجتماعية عريضة
ارتكز عليها قبوله وإدارته للبلاد.
في إطار تثبيت أركان الحكم والسلطة في
السودان سعت الحكومة الخديوية إلى الاهتمام بالطرق الصوفية ورجالات الدين باعتبار
أن ذلك أمر طاعة لأمير المسلمين في الخلافة العثمانية، فاستثمرت في العطف الديني
لتسهيل مهمتها في السودان .
فأقام تحالفاً مع رجالات الدين من
علماء وطرق صوفية منذ بداية الفتح التركي المصري، وركز محمد على باشا على أن يصحب
الجيش للسودان عدد من العلماء وكانت وصيته لهم أن يحثوا أهل البلاد على الطاعة بلا
حرب، وأنهم مسلمون وأن الخضوع لجلالة السلطان أمير المؤمنين خليفة رسول الله واجب
ديني([12]).
هنا كانت أول محاولة لربط الدين
بالدولة وتوظيف ذلك في خدمة الحكم الجديد، كما أتاح حرية دينية حيث يقوم الفرد
بشعائره دون حجب، فكانت مساجد المسلمين وكنائس المسيحيين في أماكن متقاربة ([13]).
وحقق ذلك نشاطاً اجتماعياً واقتصادياً
وظف لخدمة أهداف الدولة([14]).
وربط ذلك برواتب معلومة وامتيازات مالية وغيرها.
أدى تزايد عدد العلماء والفقهاء من الأزهر وغيره إلى تزايد نفوذهم في الحياة
الاجتماعية وتراجع دور الشيوخ قليلاً عما كان عليه إبان فترة مملكة الفونج ودارفور
وتقلي.
وكان النظام الجديد يهدف إلى إضعاف
صوت وقوة أي مقاومة محتملة وشرعت الدولة في تشييد نظام مركزي للقضاء والإفتاء
استوعب فيه عدد من الفقهاء المحليين، كما أنشأت الإدارة التركية محاكم شرعية على
كل مستويات الهيكل الإداري للدولة، كما قننت الإنزال العرفي الديني الذي كان
سائداً قبل سقوط الممالك الإسلامية تحت مسمى إرادة سنية وهو مايقابل القانون
المدني الآن([15]).
تعرض التحالف بين الحكومة التركية
ورجال الدين إلى هزات نتيجة للسياسات التي اتبعتها الحكومة، عندما حاولت التقريب
بينها وبين مجموعات دون غيرها، بالإضافة إلى أنها حاولت التمييز بين المجوعات
الصوفية نفسها بهدف السيطرة عليها وتغيير التركيبة الاجتماعية،حيث كان نصيب
الفقهاء ورجال الدين الذين عارضوا النظام هو القتل والسجن وحرق القرى، وهكذا نشأت
العلاقة الجديدة بين العلماء الذين انخرطوا في جهاز الدولة وبين الدولة على أساس
حصرهم في مجال عمل واحد هو القضاء والافتاء ومن ثم دفع المكافآت لهم، وحدث نتيجة
لذلك انسجام في الحياة الدينية بين طائفة العلماء( القضاة والمفتيين والمعلمين)
التي تشكل جزءاً من نظام الحكم وطائفة الصوفية غير الرسمية ذات النفوذ([16]).
ما قامت به الحكومة من فتح الطريق
أمام الطريقة للختمية التي رافقت الحملة التركية، زاد نفوذ الختمية وحاولت قهر
الطرق الأخرى، فأصاب التدهور نظام الأوليا الذي كان سائداً إبان مملكة
الفونج.وأصبح في مركز أدنى مما كانت عليه([17]).
عموماً كان نظام دولة الحكم التركي –
المصري في السودان يمثل تحالف الحكام العسكريين والمدنيين وزعماء العشائر وكبار
الملاك والتجار والعلماء والفقهاء المرتبطين بجهاز الدولة وبعض القيادات الدينية.
وهذه الدولة في مضمونها كانت طبقية، بمعنى أنها كانت تعبر عن مصالح هذا التحالف
الطبقي الحاكم([18]).
أسباب انهيار الحكم التركي في
السودان
كانت الامتيازات التي منحت لرجال
الدين والفقهاء والأعيان أمراً لم يتقبله المجتمع، وأدى إلى تفرق المجتمع إلى
مجموعات قبلية يناصب بعضها البعض العداء، وفقدوا شعورهم بالحاجة إلى حياة
استقرارية تهدف إلى توحيد الصفوف لتمكن البلاد في ركب الحضارة والتقدم، كما كانت
تريد أن تمتد السياسة التي جاء بها امتداد الحكم التركي المصري.مما أوجد عدم رضى
نحو نظام الحكم المستحدث، وبالتالي جعل التنظيمات المجتمعية التي أرادتها السلطة
بعيدة عن المساهمة في تثبيت أركان الحياة المستقرة وإرساء قواعد النظام السياسي
للدولة([19]).
ومثال على فشل تحقيق كسب ود الطرق
الصوفية لتثبيت أركان الحكم كمنظمات مجتمعية، هو ميل الحكم إلى التمييز بين تلك
الطرق، حيث ركز على الطريقة الختمية في السودان دون غيرها من الطوائف،مما أدى إلى
ضرب من التوتر فيما بينها وبوجه أخص في مناطق شمال السودان، وكان ذلك من أسباب
تذمر بعض الطوائف الدينية ضد الحكم التركي([20]).
وذلك من خلال اتجاهها إلى فرض الضرائب
واستنزاف الفقراء من الرعاة والمزارعين وهي: السياسة والطريقة التي سلكها صمويل
بيكر عقب تعيينه عام 1869م حكمداراً لخط الاستواء عام 1870م وأعلن ضمها رسمياً
لمصر وسماها الإسماعيلية وقد فشل صمويل في تنفيذ ما كان يتوقعه منه الإنجليز، ولم
يستطع خلال السنوات الثلاث التي قضاها في خط الاستواء. وقد استخدم القوة المفرطة
الأمر الذي أثار القبائل الجنوبية ضده بطريقة منعته من التوغل إلى الداخل([21]).
في 1873م تم تعيين غردون باشا خلفاً
له وقد عمل غردون في السودان على فترتين بلغ مجموعها الست سنوات. الأولى حاكماً
عاماً للبحيرات في الفترة من 1874م حتي 1876م والثانية حاكماً عاماً للسودان. وتحت
ساتر حاكم البحيرات قام غردون بالمهمة الأساسية التي جاء من أجلها وهي إعداد خريطة
متكاملة للنيل ومنابعه في الجنوب والموضوع الآخر لمهمة غردون هو أن يؤسس سلسلة من
المحطات داخل جميع المحافظات حتي يتم ربطها مع بعضها من أجل تسهيل الاتصالات مع
الخرطوم وعلي غردون أن يبحث عن أفضل طريقة للتغلب على الشلالات التي تعترض طريق
الملاحة النهرية، وفق كل ذلك يجب على الحاكم أن يحاول كسب ود القبائل القاطنين على
ضفاف النيل واقناعهم بوقف الحرب بينهم ووقف تجارة الرقيق([22]).
عندما غزا محمد على باشا والي مصر
السودان كانت الممرات المائية الواقعة في جنوب السودان هي بحر العرب وبحر الغزال
والنيل الأبيض والسوباط خاضعة لسيطرة الدينكا والنوير والشلك والأنواك وهي من أكبر
القبائل التي تعيش في السودان الجنوبي ولم تكن قبضة هذه القبائل مقصورة على هذه
الممرات المائية بل تمتد إلى السهول والمراعي المحيطة بها، وفي القرون السابقة
للفتح التركي المصري كان هؤلاء القوم قد حافظوا على استقلالهم بمقاومتهم للغارات
التي تشن عليهم من الممالك الشمالية([23]).
كانت فترة غردون في منصب حكمدار عموم السودان
1877 - 1879 م قد مزجت بين محاربة تجارة الرقيق وتعيين الأوربيين في الإدارة وأدت
ملاحقة القوافل واحتكار العاج إلى تأليب التجار السودانيين على الحكومة .
احتل الأوربيون مناصب قيادية في كل
المديريات التي تقع على تخوم السودان وهي دارفور وبحر الغزال ودارا والاستوائية
وزيلغ والقلابات وفازوغلي ويربط البعض هذا التعيين بالتنافس الأوربي حول القارة
الإفريقية.
الأداء الإداري للأوربيين لم يخرج من هياكل
الحكم المركزي الذي أقامه الاتراك ولم يخرج من أسلوب ممارستهم للحكم، فلم يبتدعوا
أساليب إدارية جديدة تستوعب الفئات والشرائح الضعيفة في المجتمع.
هذا الوضع خلق احتقاناً وعدم رضى داخل
مكونات المجتمع السودان، وتهيأ الوضع إلى أي تغيير يخلصهم من السياسة القهرية من
قبل الحكومة التي عمها الفساد والتفرقة بين فئات المجتمع خاصة في المناطق البعيدة
عن المركز الذي استأثر بكل ما يساعد على الرفاهية من خلال الضرائب الباهظة التي
تؤخذ من الزروع والفقراء، مما أنشأ نظاماً طبقياً على حساب غالبية الشعب.
تزامن ذلك الوضع مع ظهور حركات التحرر
في العالم العربي والاسلامي ضد الاستعمار، الأمر الذي خلق شعوراً داخلياً بعدم
قبول المستعمر في السودان، خاصة وأن ذلك قد اقترن مع فساد مالي وأخلاقي وسط
القائمين على حكم البلاد، الأمر الذي مهد الطريق لقيام الثورة المهدية في العام
1881م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق