الثلاثاء، 29 أكتوبر 2019


مقالات محكة في
مستقبل النظــام الســياسي في الســودان
د. شمس الهدى إبراهيم إدريس
(13) فترة الحكم الثنائي 1899 – 1955م
بدأت شراكة بريطانيا في الحكم بعد يومين من سقوط ام درمان حينما رفع كتشنر العلمين المصري والبريطاني جنباً إلى جنب على بقايا سرايا الحكومة المتهدم في الخرطوم، وفي الوقت الذي كان كتشنر يرفع العلمين المصري والانجليزي كان السير دينك رود ينقل إلى الحكومة المصرية قرار الحكومة البريطانية حول دورها في السودان. وعقب هذه الترتيبات وقعت بريطانيا ومصر اتفاقاً لإدارة السودان في 19 يناير 1899م وحملت ديباجته النص الآتي : (وفاق بين حكومة جلالة ملكة الانجليز وحكومة الجانب العالي خديوي مصر بشأن إدارة السودان في المستقبل، ووضع النظام الاداري والقانوني([1]).
استعادت بريطانيا حكم السودان في العام 1898م بموجب اتفاق بينها ومصر، وعهد لحاكم عام البلاد يعينه خديوي مصر بتوصية من الحكومة البريطانية، ويتولى زمام السلطتين العسكرية والمدنية في السودان،وهذا جعل في منصب الحاكم العام قدراً كبيراً في السلطات غير المحدودة(وربما الاستبدادية) على البلاد.
وتعاقب على حكم البلاد في غضون سنوات دولة الحكم الثنائي ثمانية حكام تم تعيين أولهم بقرار عسكري، ولم يعاونه في ذلك إلا قلة من الموظفين الإداريين في مجال القانون والتعليم، وكان حكام المديريات جميعهم من الضباط البريطانيين العاملين في الجيش المصري،وكان يعمل تحت إمرتهم مفتشين بريطانيين (سموا لاحقاً مفتشي مركز). وكانت إدارة الحكم الثنائي قد اتجهت لتطبيق الهيكل الإداري الذي كان متبعاً إبان الحكم التركي المصري قبل الدولة المهدية.
النظام السياسي والإداري للحكم الثنائي
سعى البريطانيون لتأسيس نظام سياسي في الأقاليم يحقق لهم القبول وسط المجتمع السوداني، فكان منهج الحكم في الفترة الأولى امتداداً لمنهج الحكم المركزي من حيث طغيان المركزية عليه وسيطرة البريطانيين على قمته وهيمنة العسكريين على وظائفه العليا. حيث قسم السودان إلى مديريات، يحكم كل مديرية مدير بريطاني ويساعد المدير مجموعة من الإداريين،وقسمت المديرية إلى مراكز إدارية يحكمها مفتش إنجليزي، ثم قسمت المراكز إلى وحدات إدارية أصغر يديرها مأمور عسكري مصري يساعده نائب مأمور سوداني([2]).
كان على رأس الحكم الحاكم العام والسكرتير المالي، ومسئول عن الميزانية وكل الشئون المالية في مصالح الحكومة، والسكرتير القضائي مسئول عن المحاكم، والسكرتير الإداري مسئول عن الخدمة السياسية التي تشمل مديري المحافظات والأمن والمخابرات والخدمة المدنية، وقد اضيف لهم مدير المعارف، وكان هؤلاء أساس مجلس الحاكم العام([3]).
كان جنوب السودان مشكلة للإدارة البريطانية فهو جزء من السودان ولكنه في نفس الوقت لا تتبع فيه نفس السياسات الإدارية المتبعة في شماله، ولم تأت السياسة البريطانية بحلول تقرب الشقة وإنما عمت الأزمة حتى غدا الجنوب البؤرة الساخنة في الحياة السياسية السودانية فتصدت الإدارة البريطانية في البداية للجنوب من مرتكز الصلف الاستعماري القائم على القهر حتي أخضعته للدولة المركزية ثم وضعت سياسات تؤدي إلى فصله عن الشمال وهي التي تعرف باسم السياسة الجنوبية([4]).
التحالفات أساس النظام السياسي للحكم الثنائي
اعتمد التحكم الثنائي في حكم البلاد على تحالفات سياسية مع المجتمع السوداني، حيث استعان البريطانيون طوال حكمهم للسودان بعناصر سودانية، ولعبت تلك العناصر دوراً بارزاً في النظام الإداري وساعدت على خلق مناخ ملائم هيأ المجتمع السوداني لقبول الحكم الجديد أو في جذب عناصر مؤيدة له، أو بالمشاركة الفعلية في الحكم([5]).
حاولت تطوير علاقاتها وتحالفاتها مع المكونات المحلية كأساس لنظام الحكم، حيث كونت الإدارة البريطانية لجنة العلماء من العلماء الذين تلقوا دراسة أزهرية أو ماشابهها ومن الذين عملوا في مجال القضاء الشرعي أو في التدريس في المعاهد الدينية أو من الذين لهم مكانة دينية ومرموقة([6]).
هذا الاتجاه نابع من إدراكهم لدور الإسلام في المجتمع وفي حياة الناس ومن إدراكهم لخطورة الوضع لأي تحركات مناوئة إذا ما انفجرت الأمور، وأنشأت الحكومة المحاكم الشرعية لتطبيق قوانين الأحوال الشخصية على المسلمين فصدر قانون المحاكم الشرعية عام 1902م وتطور القضاء الشرعي ليصبح أحد مؤسسات الحكم، كما أدركت الإدارة البريطانية أن نفوذ العلماء ورجال القضاء الشرعي محدود وسط الرأي العام السوداني وأنهم ليسو العنصر الفعال في التأثير على الناس وتشكيل وعيهم وبلورة توجهاتهم وتبين لهم أن زعماء الطرق الصوفية هم الذين يؤثرون في الرأي العام ويتمتعون بنفوذ شعبي واسع والتعاون معهم عنصر مساعد على تحقيق الاستقرار([7]).
كما أدخلت الإدارة البريطانية المؤسسة القبلية في نظام الحكم (الإدارة الأهلية) كمفردة تضاف إلى تحالفاتها السياسية وإشراكها في الحكم بهدف تقليل المخاطر التي يمكن أن تواجه الدولة من قبل الفاعلين وسط المجتمع، كما أن للإدارة الأهلية مزاياها، فنظار القبائل والعمد أقل تكلفة من الإداريين البريطانيين والسودانيين وتعتبرهم ترياقاً مضاداً للحركات المهدوية والوطنية وسداً منيعاً ضد اندلاع حمى التعصب القبلي والديني([8]).
المقاومة الداخلية لدولة الحكم الثنائي
رغم المرارات التي أصابت فئات كثيرة من المجتمع السوداني إبان حكم الخليفة عبد الله للسودان بعد وفاة المهدي، أصر المجتمع السوداني على مقاومة الاحتلال رغم التحالفات التي أنشاتها إدارة الحكم الثنائي وسط رجالات الدين والعلماء والفقهاء بهدف خلق توافق اجتماعي يساعد على الاستقرار السياسي، حيث واجهت إدارة الحكم الثنائي مقاومات منذ اليوم الأول عقب سقوط الدولة المهدية حتي الاستقلال، وقسمت المقاومة لذلك الحكم إلى أربع فترات ومراحل زمنية محددة لكل منها سماتها وميزاتها([9]).
فترة المقاومة الأولى من 1898 – 1919م: فكانت مقاومات في شمال السودان وجبال النوبة وجنوب السودان و دارفور، حيث زعمت إدارة الحكم الثنائي أن الإسلام الصوفي وراء اندلاع الثورة المهدية لذلك ناصبته العداء، فعمدت إلى اضعاف ذلك التيار بتشجيع العلماء وخريجي الأزهر، وحاولت أن يكون هذا التيار سنداً في تقليل احتمالات أي مقاومة ضدهم ومنعت زعماء الصوفية من بناء المساجد، واعتبرت الأنصار عدوهم الرئيسي، وحاول كتشنر أن يقصي مجموعات أنصار المهدية من المسرح السياسي والاجتماعي فهدم قبة المهدي ومنع تلاوة الاذكار([10]).
(راتب المهدي) فكانت انتفاضة ود حبوبة في الجزيرة 1908م كما كانت مقاومة جبال النوبة وانتفاضة تلودي وانتفاضة الفكي في جبال الميرم. أما بشأن المقاومة في جنوب السودان لم يكن هناك حكماً مباشراً من قبل إدارة الحكم الثنائي على الجنوب، فكانت انتفاضة النوير والدينكا، وعارضت قبائل الزاندي الحكم الأجنبي([11]).
كما اندلعت مقاومة دارفور وكانت دارفور سلطنة مستقلة عن باقي السودان، مما أدى إلى تدهور العلاقة بين إدارة الحكم الثنائي والسلطان على دينار، وهاجمت السلطنة مراكز الحكومة، واستمرت الحرب لفترة طويلة من الجانبين استولي على اثرها على دارفور وقتل السلطان على دينار .
فترة المقاومة الثانية :1919 - 1934م :
عبرت المقاومة السودانية للاستعمار البريطاني عن نفسها بعد الحرب العالمية الأولى بنشاطات مختلفة وقد نظمها في شمال السودان المثقفون والمهدويون الجدد بينما استمرت حركات الاحتجاج في جنوب السودان وظهر شكل المقاومة على محورين:
أولاً: الحركة الوطنية السودانية الحديثة التي سيطر عليها المثقفون وكانت علمانية في توجهها وأهدافها.
كانت ثورة اللواء الأبيض أل انتفاضة ضد إدراة الحكم البريطاني ولكنها فشلت لأنها كانت علمانية التوجه والمحتوي، مما أفقدها تعاطف الرأي العام الداخلي، وبعد تلك الثورة د اضمحلت المقاومة الداخلية، فاعتزل بعض قادتها العمل السيا
ثانياً: المهدية الجديدة:
كانت المهدية السلاح الذي استخدم للقضاء على الحكم التركي المصري وأصرت على مجاهدة الاستعمار ولكن بطرق جديدة حيث تخلت عن المواقف المتشددة، فكان هناك تعاون من قبل مرشدها عبدالرحمن المهدي مع البريطانيين للحفاظ على الأنصار من بطش البريطانيين .
فترة المقاومة الثالثة 1935 – 1956م:
وهي مفاوضات المجاهدة السياسية دون الدخول مع الحكم البريطاني في حروب، بعد أن ارتفع الحس السياسي لفئات المجتمع السوداني وتصاعدت وتيرة التعليم وما أفرزته الحرب العالمية الثانية، وصقلت التجارب القادة السياسيين([12]).
عموماً إذاً كانت رحلة تكوين الدولة السودانية بدأ بمملكة الفونج في بداية القرن السادس عشر، ثم ترسخ الأمر شيئاً فشيئاً عبر الحكم التركي، فالمهدية، فالحكم الثنائي، حيث بدأت شعوب أقاليم السودان، عرباً وأفارقة، في الانصهار بواسطة الثقافة الإسلامية. وقد زاد من هذه الوتيرة وجود الطوائف الدينية([13]).
نتج عن هذه الرحلة تطور اجتماع، وتطور أقاليم وتطور سياسة، وبالتالي تطور نظم الحكم. هذا التاريخ الاجتماعي السياسي يمثل الخلفية الحقيقية لتفسير ظاهرة تطور نظام الحكم في السودان.



([1]) جمال الشريف،  مرجع سابق  -  ص 457.
([2]) محجوب عمر باشري – معالم تاريخ السودان – الدر السودانية للكتب – 2000م – ص 106.
([3]) المصدر نفسه – ص 105.
([4]) د. معتصم عبدالقادر الحسن – ص 114.
([5]) المصدر نفسه – ص 122.
([6]) ذات المصدر– ص 122.
([7]) المصدر السابق – ص 113.                      
([8]) ذات المصدر ص113.
([9]) ورقة بحثية مقدمة لمؤسسة فلسطين للحوارفي يناير 2007م بعنوان المقاومة السودانية للاستعمار الأجنبي في العصر الحديث - ص أ.
([10]) المصدر نفسه.
([11]) ذات المصدر-  ص2
([12]) المصدر السابق - ص 4
([13]) أ.د. حسن على الساعوري مصدر سبق ذكره – ص 8

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق