الأربعاء، 30 أكتوبر 2019


مقالات محكمة في
مستقبل النظــام الســياسي في الســودان
د. شمس الهدى إبراهيم إدريس
(19) التجربة الديمقراطية الثانية
مضى عهد الحكومة العسكرية الأولى التي أعقبت تجربة ديمقراطية لازمها الفشل، وعادت تجربة النظام الحزبي مرة ثانية عبر ثورة طلابية أيدها قطاع عريض من الهيئات والنقابات والأحزاب السياسية والضباط الأحرار داخل الجيش([1]).
جاءت التجربة الديمقراطية الثانية بتعددية جديدة قوامها أحزاب الأمة والختمية والوطني الاتحادي والشيوعي وجبهة الميثاق الإسلامي، بالإضافة لبعض الأحزاب الجهوية([2]).
بدأت الأحزاب تلك التجربة بذات الفكرولم تستفد من التجربة الأولى وتتجاوز أخطاءها، رغم أن فترة حكومة عبود العسكرية ذات السنوات الستة كانت كافية لمراجعة تلك الأحزاب لخططها ونظامها السياسي وبرامجها السياسية في إطار تداول سلمي للسلطة. لكن الأحزاب جاءت فاقدة لذاكرتها السياسية، فقد ظلت سياسة المناورات والمؤامرات دون تحكيم البعد الفكري والرؤى الاستراتيجية للنظام المستقبلي([3]).
وبدأت التجربة الديمقراطية بحكومة انتقالية يسندها تحالف عريض استطاع إسقاط الحكومة العسكرية.ولكنه لم يخطط لاجتماعه السياسي وكيفية الحكم، مما أدى إلى انقسام ذلك التحالف إلى تحالفين متنافسن. تحالف الجبهة الوطنية للهيئات وتحالف الجبهة القومية المتحدة([4]).
هنا نشأت ثنائية حزبية ذات اتجاهين سياسيين، كان يمكن أن تكون منهجاً للنظام السياسي، ينشأ على ثوابت وطنية ودستورية متفقاً عليها تحقق استقراراً سياسياً ويرتكز على مبادىء التحالفين. ولكن نشأت تحالفات أخرى داخل التحالف الواحد، حيث تحالف زعيما الختمية والأنصار، وتحالف الأمة جناح الصادق المهدي والاتحادي الديمقراطي، وتحالف الأمة وجبهة الميثاق الإسلامي .كما تم تكوين تجمع جديد تحت مسمى الجبهة القومية المتحدة من الاتحادي الديمقراطي والأمة والأخوان المسلمين بعد دخول الأجندة الخاصة([5]).
أما تحالف الهيئات فتشتت بعد تكوين حكومة سر الختم الخليفة الانتقالية الثانية عقب حل الحكومة الأولى التي كانت يسيطرعليها الحزب الشيوعي، وخرجت بعض النقابات والهيئات من الحكومة الجديد ة وتلقائياً انتهى تحالف الهيئات، ونشأ تحالف جديد تحت مسمى التجمع الاشتراكي الديمقراطي([6]).
وأصبحت التجربة تحكمها المصالح الحزبية الضيقة، فارتفت معدلات الصراع السياسي على السلطة.وهذا ما عكسه نشاط التحالفات التي كان هدفها إقصاء الآخر وإبعاده عن المشهد السياسي.
ضاعت القضايا الوطنية والدستور والنظام السياسي المستقر وسط زحمة التحالفات الحزبية والحكومات الائتلافية التي كانت متناكفة سياسياً، كما خلق ذلك الوضع عدم تعايش بين الأحزاب السياسية بسبب عدم القبول بالآخر ومحاولات الاستقطاب الحاد وسط العضوية. وكانت المطامع والمصالح الخاصة سمة من سمات التجربة.
جاءت التجربة بأحزاب جديدة لم يكن لها وجود خلال فترة التجربة الأولى، وظهر فكر جديد وشعارات تنادي بعدم فتح الطريق أمام الأحزاب التقليدية. فتكونت الهيئات التي اعتبرت نفسها ممثلاً للحركة الجماهيرية وبديلاً شرعياً للمؤسسات السياسية الطائفية. وكانت محاولة لإبعاد طائفتي الأنصار والختمية من المشهد السياسي، دون مرعاة لوجودهما الفاعل على الساحة السياسية([7]).
الأمرالذي لم تقبله تلك القوى السياسية. فبدأ صراع سياسي بين الهيئات والأحزاب، أدى إلى عدم تعايش وسط القوى السياسية. وحاولت قوى سياسية تكوين تحالف قوامه حزب الأمة جناح الصادق المهدي والوطني الإتحادي وهو مزيج بين نبذ الطائفية واليسار، ولكن انهار هذا التحالف رغم ما بدأ بينهما من فرص التجانس، لكنه لم يُترجم إلى واقع التعايش بين الحليفين([8]).
كما شهدت الديمقراطية الثانية أول انشقاق داخل طائفة الأنصار كمفردة جديدة في عدم الانضباط الحزبي، عصفت بتماسك كيان طائفة الأنصار، وبدأ صراعاً آخر بين السياسة والقداسة، مما قلل فرص التماسك والتعايش داخل الحزب الواحد من جهة والولاء العقدي من جهة أخرى. الأمر الذي زاد من حدة الخصومة السياسية. كما تفرقت قوى الاتحاد إلى مسميات عديدة، مع تمدد جبهة الميثاق الإسلامية على حساب طائفتي الختمية والأنصار. وكانت حكومات الديمقراطية الثانية محورها الأساسي حزب الأمة يحالف من يشاء ويبعد من يشاء ويحكم كيف يشاء([9]).
أثبتت تلك التجربة الديمقراطية أمراً آخر في مستقبل النظام السياسي في السودان، وهو أن ارتفاع درجة التجانس السياسي بين الحلفاء ليس هو المحدد للاجتماع السياسي، بل التعايش بواسطة منهجية التسويات هو محدد استقرار النظام السياسي.
كما أفرزت تلك التجربة ظهور المستقلين وفوزهم ببعض المقاعد البرلمانية، وذلك من خلال انتخابات أواخر التجربة، ولم يحصل حزب على أغلبية تمكنه من تشكيل حكومة بمفرده،أوائتلاف ذى أغلبية، بسبب تقارب نسب مقاعد الأحزاب في البرلمان، وهذا ما يفسر كثرة الحكومات الائتلافية في تلك الفترة.
بدأت مرحلة التحالفات والتسويات السياسية للتوافق على دستور دائم للبلاد، وقد أخذ هذا المنحى أشواطاً بعيدة ومدى متقدماًَ، ولكنه كان دستوراً غير مجمع عليه خاصة من أحزاب فاعلة ومؤثرة في المشهد السياسي والساحة السياسية وسط النقابات والهيئات، مثل الحزب الشيوعي والبعث والحزب الناصري، مما أدى إلى لجوء تلك الأحزاب والفعاليات السياسية إلى تنظيم الضباط الأحرار بالقوات المسلحة(تنظيم مدعوم من النظام الناصري الحاكم في مصر)، حيث قاد انقلاباً عسكرياً ضد الديمقراطية في مايو 1969م وأخذ السلطة بقوة السلاح([10]).
وأنهى تجربة ديمقراطية غير ناضجة أثرت فيها عمليات الإقصاء السياسي والتحالفات المتناقضة التي لا تجمع بينها أهداف سياسية، والتي كانت تحالفات لإقصاء الآخرين، وتحقيق مصالح شخصية دون المصالح القومية، فدخل السودان في تجربة حكم عسكري جديدة.


فشل التجربة الديمقراطية الثانية يرجع إلى أسباب عديدة أهمها:
·    الانشقاقات داخل الأحزاب ذات الثقل بالبرلمان، رفضاً لقرارات الحزب، أو عدم حل الخلافات داخل أجهزة الحزب، كما حدث لحزب الأمة الذي افتقد الإنضباط الحزبي.
·         عدم التجانس بين الأحزاب وبالتالي التعايش بينها.
·    سياسية الإقصاء التي كانت أسلوب الأحزاب الكبرى مع المكونات الفاعلة في المجتمع كالنقابات والهيئات.
·         رفض التداول السلمي للسلطة واستبداله بالقوة العسكرية.
















([1]) أ.د. حسن على الساعوري – كيف يحكم السودان مصدر سبق ذكره – ص 102.

([2]) المصدر نفسه – ص 40.

([3]) شمس الهدى إبراهيم إدريس -  المؤبدون في سجن الوهم وخدعة الديمقراطية –مصدر سبق ذكره – ص78.

([4]) أ.د. حسن على الساعوري – كيف يحكم السودان مصدر سبق ذكره – ص 103.

([5]) المصدر نفسه – ص 104.            

([6]) المصدر نفسه – ص 105.

(([7] شمس الهدى إبراهيم إدريس -  المؤبدون في سجن الوهم وخدعة الديمقراطية – مصدر سبق ذكره – ص79.

(([8] أ.د. حسن على الساعوري – كيف يحكم السودان مصدر سبق ذكره – ص 108.

(([9] شمس الهدى إبراهيم إدريس -  المؤبدون في سجن الوهم وخدعة الديمقراطية – مصدر سبق ذكره – ص 89.


([10]) أ.د. حسن على الساعوري – كيف يحكم السودان مصدر سبق ذكره – ص 141.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق