الأربعاء، 30 أكتوبر 2019


مقالات محكمة في
مستقبل النظــام الســياسي في الســودان
د. شمس الهدى إبراهيم إدريس
(20) التجربة الديمقراطية الثالثة
جاءت الديمقرطية الثالثة عقب انتفاضة شعبية على حكومة مايو العسكرية التي استمرت لفترة ستة عشر عاماً، أفرزت تلك الفترة غُبناً سياسياً وسط الأحزاب نتيجة لسياسات مايو تجاه أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي والأخوان المسلمين رغم الهادنات والمصالحات التي أبرمها النظام مع تلك القوى السياسية([1]).
وقد بدأت تجربة الديمقراطية بحكومة انتقالية قوامها شراكة بين النقابات والجيش إلى حين أن تستعد الأحزاب والحكومة للانتخابات البرلمانية. وبذلك تكون الأحزاب السياسية ومكونات المجتمع الأخرى قد حققت قدراً من التوافق والانسجام والتعايش. وسرعان ما فرط الجميع في ذلك التعايش، واتجهت إلى تصفية الحسابات بدلاً من ترتيب وتهيئة ذاتها لخوض العملية الانتخابية، والنظر في القضايا الوطنية التي دائماً ما تكون سبباً في عدم الاستقرار والتوافق السياسي، وأولها قضية جنوب السودان التي كانت محل مزايدات سياسية بين الأحزاب السودانية. فأنقمست الأحزاب وخاصة حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي في صراعات هامشية، مثل ما اسمته كنس اثار مايو([2]).
 في إشارة للحزب الشيوعي الذي خطط وساند النظام المايوي منذ يومه الأول، بالاضافة للأخوان المسلمين آخر المتحالفين مع مايو قبيل السقوط. فتكون تجمع قوة الانتفاضة والذي ضم حزب الأمة والاتحادي والحزب الشيوعي وبعض الأحزاب الأخرى دون الجبهة الإسلامية القومية([3]).
في ظل هذا المشهد السياسي المتقاطع، قامت الانتخابات في أبريل 1986م، وجاءت نتائجها لمصلحة ثلاثة أحزاب، وهي الأمة (101)دائرة والاتحادي الديمقراطي(63) دائرة والجبهة الإسلامية القومية (51) دائرة وهي دوائر الخريجين وبعض دوائر الحضر، فكانت النتيجة عكس ما كان متوقعاً من قبل التجمع([4]).
 وعليه فمن الواضح أن واحداً من هذه الأحزاب لايستطيع أن يشكل حكومة بمفرده. ولم يحز أي واحد منها على الأغلبية المطلقة من الدوائر. فضلاً عن أن المطلوب ما هو بالأغلبية المطلقة فقط وإنما الأغلبية المريحة التي تمكنه من الحكم وهو مطمئن إلى أنه ليس هناك عوامل لعدم الاستقرار في السلطة.
 إذن الحكومة ليست حكومة حزب واحد. فلابد أن يقوم هناك ائتلاف بين حزبين أو أكثر، أو تكون حكومة قومية تمثل كل الفعاليات السياسية ذات الوزن داخل الجمعية التأسيسية ([5]).
وكانت الفرصة مواتية لإحداث إجماع سياسي وتشكيل حكومة قومية تمثل الجميع من غير النظر إلى الأحجام السياسية داخل المجلس النيابي، أوائتلاف بين حزبين أو أكثر، ويستند إلى أرضية مشتركة في البرامج السياسية المطروحة، وبالتالي تضمن بقاءها من هزات تؤدي بها إلى الفشل. ولكن لم يتم ذلك بسسب الشقة السياسية والنفسية التي خلفتها الحملة الانتخابية بين قيادات الأحزاب([6]).
مما انعكس على المنافسة السياسية، وبالتالي شابتها درجة من الخصومة من فرط كيل الاتهامات والتحديات، وفي هذا الجو يصعب على الحزبين إيجاد مناخ ملائم لنجاح حكومة ائتلافية أوحكومة قومية قائمة على الفعاليات الساسية داخل المجلس النيابي ذات الوزن ([7]).
كان يتطلب الأمر مرونة وعدم تعنت من الحزب الذي يتمتع بالأغلبية في توزيع المسئوليات، وبطرح رؤى تقرب بين الأحزاب الفاعلة حتى تقبل المشاركة في برنامجه وهي مطمئنة لذلك، وترك كل مايؤدي إلى الفرقة جانباً، على ان ينسوا ماكان بينهم في مرحلة مايو والحكومة الانتقالية وفترة الحملة الانتخابية.
كان يمكن أن تشكل حكومة برنامج وطني وفق توافق بين الحزبين الكبيرين ومن يريد من الأحزا ب الصغيرة الأخرى ويترك أمر المعارضة القوية للحزب الثالث الجبهة الإسلامية القومية بعد الاتفاق على المبادىء الأساسية للدولة السودانية، وتكون بذلك قد قدمت الديمقراطية الثالثة نموذجاً يحتذى. ولكن كانت الحكومات التي شكلها حزب الأمة فاقدة للتوافق السياسي والبرنامج المشترك. فتعددت الحكومات الائتلافية، حتى جاءت مذكرة القوات المسلحة التي طالبت بتكوين حكومة جديدة دون مشاركة الجبهة الإسلامية فيها رغم فاعليتها في الساحة والمشهد السياسي .
استجاب حزب الأمة صاحب الأغلبية البرلمانية لشروط الجيش، وكون حكومة من النقابات والقوى اليسارية والجيش والأحزاب الأخرى وأبعد الجبهة الإسلامية القومية منها. وأصبحت الجمعية التأسيسة مشلولة في إدارتها بسبب الغياب المستمر للنواب ورؤساء اللجان، وسلمت أمرها طائعة مختارة للجهاز التنفيذي، يحدد موعد انعقادها، ويقوم بالتشريع نيابة عنها([8]).
وبذلك أدخلت الأحزاب مفردة جديدة لقاموس النظام السياسي الديمقراطي، وهي خلطة بين العسكرية والديمقراطية، فكان ذلك إنذاراً بنهاية التجربة الديمقراطية الثالثة في السودان نتيجة الانقياد لقرارات القوات المسلحة، وتقويض المشاركة الشعبية من خلال إبعاد ثالث الأحزب التي تتمتع بالتفويض الذي منح لها من قبل جماهيرها الفاعلة والنوعية(دوائر الخريجين) لتسيير أمر البلاد([9]).
هذا الخلط الساسي قاد إلى أن تحرك الجبهة الإسلامية القومية كوادرها داخل الجيش وتُطِيح بالنظام عبر انقلاب عسكري في الثلاثين من يونيو1989م، أنهت به التجربة الديمقراطية الثالثة.
خلاصة القول إن التجارب الديمقراطية في السودان لم تحقق استقراراً سياسياً، ولم تُرسخ لنظام سياسي، حيث تعددت أسباب فشلها، وكان لنشأتها وتكوينها الداخلي الذي بُنِي على الولاء الطائفي للحزبين الكبيرين ممثلين في طائفتي الختمية والأنصار السمة الأبرز في ذلك.وهذا أدى إلى أن القوى السياسية لم تتوافق على برنامج وطني في أول تجربة سياسية على كيفية التداول السلمي للسلطة، والتفكير الجاد في تطوير الدولة الوليدة بدستور دائم للبلاد، فكانت كل تجربة ديمقراطية تأتي بشكل أسوأ من سابقتها، وأحزاباً فاقدة لذاكرتها السياسية، ولم تٌهييء نفسها لاستيعاب تطورات الحياة السياسية.
رغم إعلان الأحزاب التمسك بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، ولكنها مارست النفاق السياسي فيما بينها، وبالتالى غياب المنهج الوفاقي لحسم الخلاف وأسلوب التسويات داخل التحالف الحاكم، أو داخل الأحزاب، واستخدام منهج لى الذراع لتمرير سياساته، وذلك بحل حكومة قومية من حزب أغلبية لمنع دخول طرف آخر كشريك في السلطة، واستعملت القوة والمؤسسة العسكرية للانقضاض على السلطة، وهذا يعني عدم المقدرة على التعايش بين الأحزاب السياسية بسبب فقدان الثقة بين السياسيين داخل الحزب الواحد.
غياب المؤسسات السياسية الفاعلة أدى إلى تجزئة السلطة، وبالتالي ضعفها. وبناء على ذلك، ليس هناك ما يحفز قائداً أوجماعة على تقديم تنازلات مهمة في أثناء السعي من أجل السلطة.
كانت التجارب الديمقراطية الثلاث التي مرت على السودان، تقوم على النظام البرلماني الذي يرتكز على وجود مجلس منتخب مستمداً سلطته من الشعب الذي انتخبه، ويقوم على مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية، وتكون السلطة التنفيذية من طرفين هما رئيس الدولة ومجلس الوزراء، وهذا يعني التداخل بين السلطتين، الأمر الذي يحتاج إلى توازن بينهما، وانضباط حزبي، لأن الحزب صاحب الأغلبية هو الذي يشكل الحكومة، وبالتالى الحكومة تتمتع بمساندة البرلمان. وكانت الممارسة السياسية كطابعها غياب الاعتراف بالتداول السلمي كما أن النظام الساسي بعيد كل البعد عن حزب الأغلبية المطلقة.
أفرزت التجارب الديمقراطية في السودان فشل النظام البرلماني بسبب عدم ملاءمتة مع ظروف السودان، وبالتالي أدى إلى خلل في النظام السياسي.


([1]) شمس الهدى إبراهيم إدريس – المؤبدون في سجن الوهم – مصدر سبق ذكره – ص 94.

([2])  أ. بدرالدين  حسين على أحمد – مصدر سبق ذكره – ص 148.

([3]) شمس الهدى إبراهيم إدريس – المؤبدون في سجن الوهم – مصدر سبق ذكره – ص 100.

([4]) محمد على جادين – تقييم التجربة الديمقراطية الثالثة في السودان -  مركز الدراسات السودانية – القاهرة 1997 – ص 108.

(([5] أ.د. حسن على الساعوري – ديمقراطية السودان الثالثة– ص 50.

([6]) المصدر نفسه  – ص 51.

([7]) المصدر نفسه  - ص 52.

([8]) أ.د. حسن على الساعوري – ديمقراطية السودان الثالثة – مصدر سبق ذكره – ص 144.


([9]) المصدر نفسه – ص 95.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق