مقالات محكة في

مستقبل النظــام الســياسي في الســودان

د. شمس الهدى إبراهيم إدريس

            (10) مملكـــــــــــة تقلــــــي

نشأت مملكة تقلي في منطقة جبل تقلي على الجزء الجنوبي من كردفان في القرن السادس عشر^([1]).وتحديداً في منطقة جبال النوبة في عام 1561م^([2]). أي المنطقة التي عليها ولاية جنوب كردفان الحالية بالأخص الجبال الشرقية، وسط مجموعات متعددة الأجناس واللغات وأغلب سكانها كانوا وثنيين، وبعدها إنتشر الإسلام في المنطقة.

فقد عرف الاسلام طريقة للمنطقة وأصبح أسلوب حياة وأذاب كل الفوارق الطبقية والدينية بين مكونات المجتمع التقلي، الذي أصبحت تقلي هويتة السياسية والاسلام هويتة الدينية مع احترام المعتقدات الأخرى.فكان الاسلام العامل المحرك للتطور الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي شهدته القبيلة والمملكة.وتحولت من الوثنية إلى الإسلام بفضل الهجرات العربية من الجعليين والرباطاب والعبدلاب والبديرية إليها، بالإضافة لقبائل الفونج^([3]).

الحكم والسلطة وهيكل مملكة تقلي:

أسس الحكم فيها على الشورى، وأن الملك يأخذ برأي الأغلبية في الحكم ولا ينفرد برأيه ولا السلطة، وكانت السلطة قوة تركز في يد الملك، وحكم مركزي يساعده وكيلان هما الوكيل الأول (الجندي) وله سلطات تحركات الملك (السكرتير الأول)، والوكيل الثاني يشرف على بعض المناطق^([4]).

ليس للملك في تقلي الحق في الانفراد بالسلطة ولا الرأي كما أنه لا يسير أمام المجموعة بل خلفها ولايفرض رأيه عليها ولا ينفرد بالحكم، بل يكون حكمه وتصرفه دائماً بعد أن يطرح الأمر على المجموعة وأصحاب الرأي ويأخذ برأي الأغلبية ثم يحكم^([5]).

وهذا أن حكم مملكة تقلي مبني على الشورى أي (حكم الشعب بالشعب).

ينقسم هيكل مملكة تقلي إلى ما يلي([6]):

1.        هنالك ملك .

2.        تقسم المملكة إلى قسمين شمالي وجنوبي، أي المملكة قسمت إلى إقليمين.

3.        يتكون كل إقليم من عدد من النظار (مفردها ناظر) وتحت إمرته عدد من العمد (مفردها عمدة).

4.     رغم التعدد القبلي والإثني في تقلي ولكنها تسمى في الهوية والمنظومة الإدارية تسمى تقلي، وتحتفظ كل قبيلة بنسبها ولايجهل تكوينها العرقي، ودائما في تعريف الشخص لنفسه يقول إنه تقلاوي الجنس وبديري النسب وهكذا، وهي مفردات موحدة في التعريف في أوقات السلم والحرب^([7]).

يتكون مجلس شورى الملك من الآتي:

·         وزير خاص: لكل الأمور الداخلية التي تخص الملك.

· وزير عام : لتبادل الأداء ومراقبة تنفيذ القرارات التي تقرها المجالس الأخرى وينوب عن الملك في حال غيابه. مجلس أهل الديوان: وهو يتكون من المشايج الكبار وهولاء عليهم إتخاذ القرار ورفعه لأكبر مجلس من

·         مجلس أعيان ورؤساء القبائل (خشوم البيوت) لمناقشتة وإقراره أو تعديله.

· مجلس الأرابيب: وعددهم تسعة وهذا المجلس يعمل في غاية من السرية وجلساته مغلقة لمناقشة الأمور الحساسة، وهذا المجلس بالمفهوم الحديث هو (جهاز الأمن للمملكة)، ومهمته كشف المؤآمرات ضد المملكة أو الممارسات أو الأفكار والتدابير التي لا تتوافق وأعراف وتقاليد المملكة دون علم الشورى^([8]).

النظام السياسي في مملكة تقلي:

تتميز مملكة تقلي باجتماع سياسي وعقد اجتماعي ساهما في التدوال السلمي للسطة وارتضى الكل الطريقة المتبعة في العزل واختيار الملك، بالإضافة للالتزام بالتوافق السياسي والاجتماعي الذي ارتضاه الجميع وهو بمثابة دستور دائم للمملكة في تقلي ومتفق عليه من قبل النظار والعمد وجميع المكونات السياسية والاجتماعية داخل مملكة تقلي.

مما أرسى ديمقراطية حقيقية واجتماع سياسي أدى للاستقرار الأمني والسياسي، وهذا ما تعكسه بعض الممارسات ومنها على سيبل المثال:

هناك عادة تطبق سنوياً ثلاثة مرات على الملوك بغرض تقييم أداء الملك وحكومته، وهي خروج الملك وحكومته خارج رئاسة المملكة لافساح المجال وإعطاء رجال الدولة الحرية الكاملة لمناقشة أداء الملك وطريقة حكمه، على أن يدلي كل فرد برأيه بصراحة وحرية بهدف التقويم، وهذه تتم مرتين في العام، أما الثالثة وتكون في آخر العام ويتم فيها تقييم كامل وشامل لأداء الملك وحكومته ويخرج فيها الملك ويعين أحد الارابيب بالجلوس على بساط الملك لتسيير أمور المملكة، ويناقش الأعيان (مجلس الشورى) أداء الملك في غيابه (جرح وتعديل) وإذا وجد أن الملك يسير على الطريق الصحيح ويحكم بما هو مطلوب ومتفق عليه يرسل له بالعودة لملكه، وإذا كان الأمر غير ذلك يؤمربعدم العودة ويعين ملكاً آخر بدلاً عنه[9].

أسباب وكيفية سقوط مملكة تقلي:

تعرضت مملكة تقلي إلى غزوات من ملوك دولة الفونج باعتبارها الجار الملاصق لهم في الاتجاه الغربي الجغرافي، وحاولت بعد سقوط مملكة الفونج التوسع، ودخلت في حروب وصراعات مع السلطات التركية التي كات تحكم السودان الشرقي في ذلك الوقت.

استخدم الملك (ناصر) سياسة (فرق تسد) في إدارة المملكة، وأصبح يمارس الغلظة والبطش مع الرعية مما أفقده الاحترام والطاعة واستشرى طغيان ولده (المؤمن)، فاجتمع عقلاء القوم وقاموا بعزله واحتمى بالسلطة التركية.

عموماً أن روح الوطنية تتأصل في مجتمع مملكة تقلي، أي أن هناك حدوداً وطنية لا يمكن تجاوزها وهي الانتماء للوطن الجامع، ولا تفرق بينهم القبيلة ولا الجنس أو اللون. وهو مؤشر آخر إلى أن هناك تساوياً وعدالة في الحقوق والواجبات.

استمدت مملكة تقلي قوتها من التنوع الثقافي والتعدد الاثني، وذلك عند ما وحدت هوية المملكة وغرست حب الانتماء للوطن قبل القبيلة والعائلة،مما خلق انسجاماً اجتماعياً وسياسياً أبعدها عن الصراعات الداخلية والموقف الموحد ضد التدخلات الخارجية مما خلق نظاماً سياسياً مستقراً طابعه الشورى وفق هيكل إداري محكم ساعد على انسجام اجتماعي يعتز به المجتمع التقلي. وكان الدين الإسلامي هو مبعث التوافق والانسجام السياسي والاجتماعي في مملكة تقلي، مع احترام الكل للقبيلة طالما هي تنتمي لتقلي، وساعدت القبيلية في مملكة تقلي على إنتاج تعايش سلمي وتنوع ثقافي بين مكونات المجتمع التقلي، أدى إلى آليات لفض بعض النزاعات الداخلية بين القبائل (الإدارة الأهلية) التي سهلت من مهمة التوافق الاجتماعي وبالتالي التوافق السياسي.

استطاعت مملكة تقلي أن تحافظ على مقومات النظام الملكي،وأرست دعائم الأمن بحيث مكنت لكل قبيلة من مزاولة حرفتها من رعي وزراعة وتجارة وغيرها، كما تعرضت لغزو من الفور والمسبعات^([10]).

عموماً: إن تجربة الممالك السودانية ومدلولاتها شكلت بنية قاعدية للمخيلة الاجتماعية العامة في السودان، وكان لها الأثر الكبير في تشكيل ملامح نماذج ماثلة في النظم التقليدية في الإدارة الأهلية وإدارة الدولة، ويمكن أن يكون الاجتماع السياسي في تلك الممالك وربطه مع التطور الحديث والمستجدات السياسية والأيديولوجية والثقافات التي طرأت على العالم جراء العولمة، ولذلك يحتاج إلى توجيه الثقافات والأيديولوجيات مع عدم طمس الخصوصيات الثقافية السابقة.

ونجحت الممالك السودانية في جعل الدين عقداً اجتماعياً ونظام حياة شاملاً وعبره يمارس السلطان أو الملك صلاحياته من غير إكراه، فقد ارتضت القبائل والسحنات المكونة للمجتمع ذلك العقد لينظم العلاقات بينها وعززت التعاون القائم في المجتمع قبل نشأتها.

تميزت النظم السياسية والإدارية في الممالك السودانية موقع الدراسة بتوافق سياسي واجتماعي خلق ثقة متبادلة بين المجتمع الحاكم، فكان ولاء الفرد للجماعة والدولة في درجة أعلى من ولائه للعائلة والعشيرة، وبالتالي الولاء لمؤسسات السلطة العامة.

مثلت الممالك الأرضية الأولى للدولة السودانية الحديثة، فمهدت إلى قبول سلطة واحدة ومملكة واحدة^([11]).

---

^([1]) يوسف حسن فضل مصدر سبق ذكره – ص 111

^([2]) أ.د. حسن على الساعوري – كيف يحكم السودان مصدر سبق ذكره – ص 6

^([3]) عبد القادر محمد عبدالقادر دورة تأريخ مملكة تقلي  مطبعة المركز الإسلامي الأفريقي 1994  ص33

^([4]) جودات بابكر الشيخ سعيد – مصدر سبق ذكره ص 167.

^(([5] المصدر نفسه ص20.                                                                   

^(([6] المصدر السابق ص21.

^(([7] عبد القادر محمد عبدالقادر دورة مصدر سبق ذكره ص37.

^([8]) المصدر نفسه ص 41- 42.

^(([9] المصدرالسابق  ص 40.

^(([10] يوسف حسن فضل مصدر سبق ذكره – ص116.

^(([11] أ.د. حسن على الساعوري مصدر سبق ذكره، ص 6.