مقالات
محكمة في
مستقبل النظــام الســياسي في الســودان
د. شمس الهدى إبراهيم
إدريس
(15)
التعددية العرقية والتعددية القبلية
كان السودان
قبل دخول العرب السودان يتكون من عرقيات نوبية على النيل بعد الممالك القديمة ولهم
مملكتان مسيحيتان هما المقرة وعلوة، وتمتد تلك الممالك من جنوب مصر إلى مناطق
أواسط السودان.كما كانت العرقيات الزنجية في غرب السودان الحالي وجنوبه، بالإضافة
إلى قبائل البجا على المناطق بين البحر الأحمر والنيل([1])،
والسودان موطن لعدد كبير من القبائل التي ترجع أصولها إلى قبائل محلية وقبائل
وافدة([2]).
حيث بدأت
هجرات القبائل العربية إلى السودان في عهد الإسلام الأول، وازدادت الهجرات العربية
إلى كل انحاء السودان في القرنين الرابع عشر والخامس عشر وظهرت قبائل مستقرة في
السودان وتصاهرت مع العرقيات المحلية، وتكونت قبائل مختلطة جديدة بالإضافة للقبائل
الأصلية الموجودة في المنطقة، فظهرت قبائل الجعليين وقبائل جهينة.
غيرت
الهجرات العربية التي استمرت لفترات طويلة، التطورالتاريخي للسودان وتركيبته
السكانية، وانعكست آثار ذلك في تكوينه العرقي واللغوي والديني بشكل واضح، وظهر في السودان
نتيجة لتلك الهجرات والتزاوج الذي تم بين العرب الوافدين والسكان المحليين
عنصر (هجين) يحمل سمات العروبة والإفريقية، وقد تأثرت بعض المناطق مثل شمال
السودان بذلك أكثر من المناطق الأخرى([3]).
التكوين العرقي والقبلي في
السودان.
تقوم القبيلة على أساس الدم والأصل
المشترك.رابطة الدم بين أفرادها قد تكون أصلية أو مكتسبة. الرابطة الأصلية هي
العرق والجنس والتاريخ الواحد والجغرافيا الواحدة، أي وحدة الآباء والأجداد،وذلك
بفعل التناسل داخل القبيلة. أما رابطة القبيلة المكتسبة فهي إما أن تكون
بالمصاهرة، أوبعلاقة الحلف والتعاضد([4]).
يعتبر السودان من أكبر دول إفريقيا و
العالم، ونجد أن تمدد رقعة السودان الجغرافية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً
ومجاورته لعدد من الدول، أدى إلى تعدد أعراقه وأجناسه وثقافاته، وبالتالي نشوء
تعدد سلالي وعناصر لها سمات عرقية مميزة، فالشمال والشرق تنتمي سلالته إلى العناصر
السامية الحامية، والغرب ينتمي إلى جماعات زنجية وسامية عربية، بينما يضم جنوبه
جماعات نيلية حامية، .ولعل هناك عدة عوامل جعلت السودان منطقة جذب قبلي وبشري مما
أدى إلى تعدد الإثنيات وتنوع القبائل، وقد استوعب عبر المراحل التاريخية أعداداً
كبيرة من الإثنيات والسلالات المهاجرة([5]).
لقد ساعد اختلاط العرب بالنوبة ونظام
الوراثة عن طريق الأم وهو النظام المتفشي في السودان على تمكين العرب من مصاهرة
الأسرة الحاكمة في دنقلا ممهدين بذلك لاعتلاء عرش النوبة، حيث انتقل فيما بعد
الحكم من (فرع نوبي يدين بالمسيحية إلى فرع مستعرب يدين بالإسلام)، وبذلك زال
الكيان السياسي القوي الذي كان يقف لعدة قرون دون توغل العرب بأعداد كبيرة عن طريق
وادي النيل ([6]).
في نهاية القرن السابع عشر كانت كل
المنطقة الواقعة شمال خط 12 قد تمت أسلمتها وإلي حد كبير تعريبها واختلطت فيها
السلالات السامية بالحامية. وقد وصف البعض التمازج والاختلاط العرقي بين العناصر
النوبية والإفريقية من جهة، والعناصر العربية من جهة أخرى، بأنه نوع من التباهي
الذي ينبع من حاجة الإنسان للارتباط المبكر بالآخر وربما أدى ذلك إلى احساس جديد
بخاصية مشتركة من شخص آخر .
لقد اختلط السودان الشمالي بالعرب، وفي
ذات الوقت احتفظ بجذوره التي تربطه بالكيان الإفريقي موطناً وعرقاً، فالعروبة
والإفريقية تمتزجان في الإقليم الشمالي لتكون هجيناً عرقياً فيشعر المواطنون بأنهم
عرب وإفريقيون في وقت واحد([7]).
ويمكن القول إن السودان شعبه هجين
تعددت تقافاته وأعراقه، ويلزم التدقيق في التطورات التاريخية التي تمخضت عنها
البنية الاجتماعية والثقافية في السودان، حتى يمكن التخلص من العراقيل التي ترتب
عليها النزاع والحروب، وكذلك إزالة الشكوك الناتجة عن عدم الثقة والاستعلاء العرقي
لاستبيان وكشف الحقائق التي تؤدي إلى تشوهات ذهنية ونفسية([8]).
التشكيل العرقي والقبلي للمجتمع السوداني
تشير الدراسات إلى أن السودان به حوالي
(56) جماعة عرقية تنقسم إلى (597) جماعة فرعية([9]).
عند دخول العرب السودان كانت هناك ثلاث
مجموعات عرقية كبيرة تسكن البلاد، وهم النوبييون على النيل ولهم مملكتان هما
المقرة وعلوة وتمتدان من جنوب مصر إلى أواسط السودان، وتحتل قبائل البجة المنطقة
الفاصلة بين النيل والبحر الأحمر، حيث توجد خمس مجموعات رئيسية، هم العبابدة
والحلنقة والأمرار والبشاريين ووالهدندوة([10]).
فيما تقيم القبائل الزنجية في غرب السودان
الحالي، ومع ازدياد هجرات القبائل العربية إلى أنحاء السودان في القرنين الرابع
والخامس عشر ظهرت القبائل العربية المعروفة الآن في السودان، حيث قسمها علماء
الاجتماع إلى قسمين رئيسين، هما قبائل الجعليين والتي ينتمي إليها أغلب القبائل
التي تقطن على النيل من المنطفة جنوب دنقلا إلى تخوم الجنوب، كما توجد وقبائل
جهينة و منها الشكرية والكبابيش و الرزيقات والبقارة وبنو حسين والتعايشة والترجم
والسلامات والمسيرية ([11]).
كما يوجد في غرب السودان قبائل الفور
والزغاوة والبرتي والمراريت وقبائل النوبة في مناطق جنوب كردفان، بالإضافة لقبائل
الدينكا في مناطق أبيي، وقبائل الأنقسنا في النيل الأزرق، وشكلت تلك القبائل
المجتمع السوداني بكل تكويناته الحالية، بالإضافة لبعض المجموعات الأخرى التي وفدت
للسودان إبان الحكم التركي والأنجليزي فيما بعد من أتراك ومصريين وأغاريق وهنود،
وقبائل إفريقية من دول الجوار الإفريقي الغربي مثل قبائل الفلاتة والهوسا، وتصاهرت
وانصهرت مع القبائل الأخرى، فكونت نسيجاً اجتماعياً متعائشاً، وإضافة تعددية عرقية
وقبلية شكلت النسيج الاجتماعي السوداني([12]).
دور التعدد القبلي والعرقي في
الحراك السياسي
عرف السودان التعدد العرقي وبالتالي
التعدد القبلي منذ القدم حتى دخول العرب السودان في القرن السابع الميلادي، حيث
تدرج التعدد مع تدرج انتشار الهجرات العربية الإسلامية لبلاد السودان. وتُعد
البيئة القبلية من الخصائص السوسيولجية المميزة للمجتمعات السودانية، وقد أدت تلك
البيئة القبلية أدواراً مهمة في عملية التحام المجتمعات وانقساماتها، في كل حركات
مقاومة الاستعمار، مثلما أدت ادواراً في عملية تشكيل الدولة الوطنية ومؤسساتها.
إن القبائل والأعراف التي ينتمي إليها
المجتمع السوداني كان لها حضور فاعل في تطور النظام السياسي السوداني منذ قيام
الممالك القديمة، من مملكة كوش مروراً بمملكتي علوة والمقرة وصولاً للممالك
الإسلامية ممثلة في ممالك الفور والفونج وتقلي والمسبعات، كما توسعت العرقيات
والقبلية بعد دخول الأتراك والمصريين السودان نتيجة لهجرات سلالات أخرى.
تعد القبيلة في السودان تنظيماً
اجتماعياً وسياسياً في الأساس يتفاعل مع السلطة والمشاركة فيها والإستيلاء عليها،
ويظهر ذلك من خلال تلاحم القبائل السودانية وقيادتها للإنتفاضات والثورات ضد
المستعمر الأجنبي كما هو الحال إبان الثورة المهدية، وقد حافظت القبلية على بيئتها
السياسية والعسكرية والاقتصادية في السودان([13]).
إذاً كان للتعدد القبلي والعرقي في
السودان دور بارز في التوافق والاستقرار السياسي، وكان ذلك أساس الحكم في الممالك
الإسلامية التي كانت عبارة عن تحالفات بين القبائل بكل دياناتها وسحناتها، حيث
شكلت قبائل دافور نسيجاً اجتماعياً عصم مملكة الفور من التدخلات والأطماع السياسية
واستعصت على الحكم التركي المصري([14]).
كما شكلت وحدة سياسية أفضت لتمتعها
بحكم ذاتي طوال مراحل التطور السياسي في السودان، ولم تسقط إلا في العام 1916 على
يد الحكم الإنجليزي، بعد أن تفكك نظام التحالف القبلي والعرقي الذي كانت تتمتع به
في الفترات السابقة، كما كانت مملكة الفونج عبارة عن تحالف قبلي بين الفونج والبجا
والقبائل العربية ممثلة في العبدلاب وقبائل الشمال ذات الأصول العربية([15]).
تلك المملكة التي شكلت ملامح السودان
الحديث.ولم تسقط المملكة إلا بعد عصفت بها النزاعات القبلية([16]).
تعتبر مملكة تقلي الإسلامية نموذجاً
للتلاحم القبلي والعرقي في السودان، وقد جعل منها التعدد القبلي والعرقي وتلاحمه
نموذجاً آخر للنظام السياسي المستقر، كان لالتفاف القبائل السودانية بكل طوائفها
الدينية وعرقياتها حول الثورة المهدية الأثر الأبرز في انتصارات المهدية وتكوين
أول دولة سودانية بحدودها الحالية، وكان التلاحم إبان فترة الدولة المهدية حاسماً
وسبباً من أسباب استقرارها وسقوطها. ولم يقتصر تجاوب القبائل مع الثورة المهدية
على المسلمين أو قبائل الشمال كما يشاع، ولكن تجاوب بعض الجنوبيين مع الثورة
المهدية تجاوباً كبيراً ورأوا فيها خلاصهم من الحكم التركي وعملوا على تبني
المهدية واستيعابها في إطار ثقافاتهم المحلية. كما أرسل لهم المهدي راية خضراء
يحاربون تحت لوائها([17]).
مما أنشأ ولاءً سياسياً إلى درجة
القومية الواحدة المتجانسة،حيث انصهرت في بوتقة واحدة رغم تعدد الأعراق والقبائل([18]).
يتوقف التوازن القبلي على بعض
المرتكزات حتى يكون أساس حكم فاعل، من تلك المرتكزات المساواة في الحقوق والواجبات
بين المكونات القبلية للدولة، ويتمثل ذلك في مشروعات التوأمة بين القبائل والشراكة
الفاعلة في إدارة الحكم مع إعلاء المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وهذا يتطلب
عدم تمكين طرف على آخر لتفادي بسط النفوذ على الآخرين مع احتفاظ الدولة بالأدوات
التي تمكنها من الفصل في كل ما يتسبب في نشوء أي خلاف قبلي يضر بالعملية السياسية
وبالتالي الاستقرار السياسي([19]).
إن النظرة العابرة لهذا التكوين القبلي
والطائفي قد تشير إلى قدرعالِ من عدم
التماسك والتشتت. ولكن القبلية والطائفية في السودان كان لهما دور هام ومحوري في
وحدة وتماسك السودانيين. وذلك لأن الدولة ليست فقط كسلطة سياسية، بل مصدراً للوحدة
القومية في السودان، رغم أن السودان عرف الممالك قبل الميلاد (الأسر النوبية التي
حكمت شمال السودان وامتد نفوذها في بعض الأحيان إلى مصر)، ثم خلال العهد المسيحي
وما بعده قيام دولة، ثم خلال العهد التركي وبعد انتهائه (الثورة المهدية والدولة
المهدية) إلا أنه لايزال بالإمكان القول أن الدولة لاتقوم بالدور الأساسي في وحدة
وتماسك وترابط المجتمع السوداني، كما فعلت القبيلة الطائفة[20].
([1]) الهوية
السودانية من الثنائية إلى التعددية – دراسة للتطور التأريخي للهوية السودانية
ومظاهر التعدد في السودان للدكتور بهاء الدين مكاوي(أستاذ مساعد - قسم العلوم
السياسية – جامعة النيلين)- مركز الخدمات الإعلامية - السودان بتاريخ 12/6/2012م.
[14] د.الأمين محمد عثمان مصدر
سبق ذكره – ص 103.
[15] أحمد شابي مصدر سبق ذكره – ص 302.
[16] الشاطر بصيلي مصدر سبق ذكره
- ص 70.
[17] د. بهاء الدين
مكاوي الهوية السودانية من الثنائية إلى التعددية مصدر سبق ذكره.
[18] أنظر أ.د.حسن على
الساعوري مصدر سبق ذكره – ص 174- 175.
[19] المصدر نفسه – ص 180.
[20] ورقة حول التجربة السودانية
في مجال التعددية الحزبية والممارسة السياسية- أعدها د. محمدنوري الأمين- قاعة
الشارقة 2003م- ص 13.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق