الأربعاء، 30 أكتوبر 2019


مقالات محكمة في
مستقبل النظــام الســياسي في الســودان
د. شمس الهدى إبراهيم إدريس
(18) التغيرات التي إحدثتها الثورات في الوضع الإقليمي

الاتجاه العالمي ونظامه الجديد يمر بتطورات متسارعة نحو العديد من المعايير التي تشكل الحراك الدولي والإقليمي الذي يرتكز على أهمية الفرد في جوانب الحياة المختلفة. لذلك ظهرت مفاهيم أكثر تخصصية وتعميقاً في الشأن السياسي مثل الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحرية، والمساءلة، والشفافية وغيرها([1]).
تلك المفاهيم التي تحرسها المصالح وتُسخر كل الإمكانيات الدولية والإقليمية والداخلية لتحقيقها. مما يؤثر سلباً بفعل الترابط الدولي والإقليمي في شكل الحكم الوطني والسيادة الداخلية، بالتالي أصبح ادب الديمقراطية ونموها من المجالات الرائجة في أدبيات السياسة العالمية في هذه الفترة المهمة من عمر تشكيل آليات النظام العالمي الجديد.
تأتي الثورات العربية في إطار المطالبة بالحرية والديمقراطية، وأحدثت تلك الثورات التي بدأت في نهاية العام 2012م حراكاً سياسياً وتغيرات جذ رية على المستوى الاقليمي والدولي معاً، ولم تنتشرنتيجة عدوى أو تقليد، وإنما ساهم فيها بقدر كبير حتمية التغيير لسياسات وأنظمة كرست سياسة الحزب الواحد، وفق فكر سياسي واحد حاول فرض نظام سياسي بالقوة دون تحقيق توافق سياسي، وقد أرست الثورات العربية قيماً سياسية واجتماعية وثقافية مفادها لا تهميش ولا إقصاء للقوى الفاعلة في المجتمع، بل ديمقراطية حقيقية تكون أساس الحكم والسلطة ([2]).
أنشأت الثورات العربية لغة جديدة في عالم السياسة، وكسرت الجدار العازل بين الجماهير والقادة السياسيين الذي تركوا الساحة السياسية تدور في فراغ دون النظر للتطورات التي طرأت على المجتمع، كما أغفلت الهوة السياسية بين القادة وجماهير الحزب، وتركت ظلالاً على المشهد السياسي العام في ظل تحديات دولية وإقليمية تحاول تشكيل الشرق الأوسط بشكل جديد وفق نظام عالمي يتفق مع رؤى وأفكار يرون أنها نتاج طبيعي لسنن التاريح والحياة([3]).
فكانت الثورات المضادة لخدمة هذا الاتجاه. وأدخلت بعض الدول في فوضى سياسية وأمنية قوامها التفكك والانحلال السياسي والقتل والتشريد، مما يتطلب التحسب لكل ذلك في جميع دول المنطقة، وإدازت نظاماً السياسياً وفق توافق داخلي يقود إلى استقرار سياسي في المنطقة والسودان ليس استثاءً وعليه رسم مستقبله السياسي في ظل هذا الحراك الإقليمي والدولي، وحسب متطلباته الداخلية التي تزخر بالمتطلبات التي تحقق الاستقرار تمشياً مع متطلبات الاتجاه الدولي والإقليمي.
السودان بلد متعدد الأعراق والقبائل واللغات، وبه عدد من الديانات الإسلام والمسيحية والوثنية، مما خلق ثقافات متعددة، ويشابه كثيراً من الدول في تلك التعددية. وكان السودان قبل الحكم التركي المصري يتكون من عدد من الممالك الإسلامية المستقرة بسبب جمعها لكل التعدديات ومحاولة انصهارها في اجتماع سياسي وفق تحالفات بين مكونات المجتمع، وأدى ذلك إلى استقرار سياسي دام لعدد من القرون. وعلى ذات النهج كانت الدولة المهدية : كأول دولة وطنية في السودان الحديث حققت استقراراً سياسياً على يد المهدي بعد أن أبرم تحالفات مع مكونات المجتمع بكل تعدداته تلك.
كانت التجربة الحزبية الأولى عقب الاستقلال فيها ملامح الاستقرار والتوافق السياسي، حيث تميزت أول انتخابات تقام في تلك الفترة بتعددية حزبية تجمع كل أطياف المجتمع السوداني، وتحقق فيها إجماع وطني على الثوابت الوطنية التي تعصم كل ما من شأنه أن يقود للصراعات والتفرقات .ولكنها لم تصمد، ولم تحقق تلك التجربة تطلعات الشعب السوداني، بل بالعكس لقد أرست قواعد للصراع على السلطة والمناكفات على القضايا الشخصية، وترك الوطن وتحقيق معاني الاستقلال الحقيقي، وأرجع الكثير أن سبب ذلك هي التنشئة السياسية الخاطئة للاحزاب السياسية.
تعالج المقالات الاتية مستقبل الدولة السودانية من خلال طرح التجارب الديمقراطية في السودان وأسباب فشلها لتفادي تكرارها، خاصة وأن فشل تلك التجارب قاد لانقلابات عسكرية، وهي الأخرى لم تحقق الاستقرار السياسي المنشود، ومعرفة ذلك يمكن أن نخرج برؤى ترسم مستقبل السودان السياسي في ظل الحراك الدولي والإقليمي.
التجارب الديمقراطية
كانت المهمة الأساسية للحكومة بعد إعلان الاستقلال، وضع أسس النظام السياسي الجديد لدولة السودان المستقلة، وذلك عن طريق إقرار دستور الدولة. وكُلفت لجنة قانونية لإعداده، وقد نقلت اللجنة نقلاً حرفياً غالبية نصوص قانون الحكم الذاتي لعام 1953، ذلك القانون الذي حكمت بمقتضاه البلاد خلال مدة الحكم الذاتي .وكان التغيير الأساسي في الدستور الجديد هو تبديل فقرة سلطة الحاكم العام في قانون الحكم الذاتي ووضع بدلاً عنها كلمة مجلس السيادة([4]).
التجربة الديمقراطية الأولى
كانت التجربة الأولى هي تجربة أساس الديمقراطية في السودان،وتقوم عليها الممارسة السياسية وطبيعة ونظام الحكم ومدى نجاح وفشل الاجتماع السياسي ومستقبله.
فبدأ مخاض الديمقراطية بدستور يحمل في طياته بذور عدم الاستقرار لأنه صمم لحكم ذاتي انتقالي وليس لتأسيس دولة وليدة تتمتع بسلطة مطلوب منها تتحمل كل أعباء التكوين، في ظل تعقيدات تركها المستعمرتقدح في فشل العنصر الوطني وتعكس نجاحه كقوة عظمى، لأن أهداف النظام السياسي الوطني يختلف عن أهداف النظام السياسي للمستعمر.
فكانت لهفة السياسيين للسلطة قد طغت على وضع دستور يفي بمطلوبات المرحلة لتكوين دولة ونظام سياسي يؤمن الاستقرار، وكان ذلك أول بوادر فشل التجربة الديمقراطية الأولى عقب الاستقلال.
كما أن الفكر السياسي عند رواد الحركة الوطنية وهو من أثر على الممارسة السياسية، لم يكن متوافقاً مع الواقع، وكان ذلك نموذجاً اتبعه اللاحقون من الأجيال. وبني الفكر السياسي على نظريات وكأن المجتمع متوافق عليها، وأن السلوك الديمقراطي واجراءته شيء اعتيادي للمجتمع ولا غرابة فيه([5]).
 دون النظرة إلى أن الديمقراطية وممارساتها حدث جديد على المجتمع السوداني وهو خارج لتوه من استعمار كان له نظامه الخاص. كما بني الفكر السياسي على نظريات مستجلبة وأخرى لاحقة للمرحلة،وأخرى سابقة، لم تأخذ بمبدأ التدرج، ولم تستوعب فيها التطورات السياسية، وبالتالي تطور المؤسسات السياسية. وهذا يقود إلى أن الفكر السياسي للرواد الأوائل اعتمد على المشاركة السياسية لنخبة متخصصة وصغيرة من الارستقراطيين وليس عامة الجماهير، ولم يخطر بالفكر السياسي أن الأنظمة تتمايز بمستوى المؤسسة السياسية ومستويات المشاركة السياسية والنظام السياسي الذي يحقق درجة عالية من المشاركة السياسية، هو نظام أكثر استقراراً([6]).
هذه الخلفية فسرت أسباب الصراع السياسي في الممارسة الديمراطية، والتنكرللتفويض الشعبي، وأن الهدف منه هو أساساً للزعامة والقيادة، واللجوء إلى العواطف الدينية بدلاً من العقلانية، فسادت ديمقراطية الإشارة، بدلاً من ديمقراطية التفكير الذي يقود إلى المواقف المستقلة، مما أفشل التجارب الديمقراطية الثلاث([7]).
لم تحقق الديمقراطية الأولى نظاماً سياسياً مستقراً، وذلك لأسباب أهمها:
أولاً:    لم يشترك المواطنون وقيادتهم السياسية في رؤية المصلحة العامة والتقاليد والمبادىء التي يبنى عليها الاجتماع السياسي، أي أن هناك عدم توافق بين مكونات المجتمع وتعدداته على أسس واضحة بينهم. كما كانت المؤسسات السياسية ضعيفة التكوين وغير متكيفة مع الواقع وغير متماسكة، ويظهر ذلك من خلال حالة الاستقطاب وسقوط أول حكومة وطنية عقب الاستقلال، تلك الحكومة التي كانت يتزعمها تحالف الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي يتمتع بأغلبية مطلقة نتيجة لتحالفاته مع التيارات والأحزاب غير المنافسة في الساحة السياسية([8]).
أما عدم التماسك فيؤكده انسلاخ عدد من نواب الحزب الإتحادي مما أفقده الأغلبية. وهذا يؤكد أن التكتل السياسي الذي كان سائداً داخل الحزب ناتج عن الروابط الاجتماعية والتأثير السياسي، ولكن مع توسع نطاق المشاركة السياسية، تصبح طرائقهم في النشاط السياسي أكثر تنوعاً ويزداد الصراع السياسي، وهذا تطابق مع ماحدث أيضاً في أوساط حزب الأمة إبان الديمقراطية الثانية([9]).
ثانياً:    الأحزاب الفاعلة لم تتكيف مع الوضع السياسي ولجأت إلى تحالفات وتحالفات مضادة لشهوة السلطة، مما خلق فوضى سياسية[10]. لأساليب وممارسات غير ديمقراطية مثل الاستقطاب والإغراء والتهديد والتحريض،واستغلال بعض القضايا الوطنية(أزمة جنوب السودان) لتأجيج الصراعات السياسية بهدف إقصاء الآخر أو تفشيل حكومته، أي كانت المعارضة معارضة هدامة.
دخلت البلاد في تلك الفترة في تحالفات بهدف إقصاء الآخرين والظفر بالسلطة، وظهرت الاتهامات هنا وهناك بين قيادات الأحزاب، والتقي زعيما الختمية والأنصار، أعداء الأمس وتحالفاً ضد المكونات الأخرى لإبعادها عن المنافسة السياسية، وإسقاط حزب الأغلبية([11]).
ليس لتكوين نظام أو إجماع سياسي.وهذا يعني رفض التعايش مع فكرة السلطة للحزب الغالب([12]).
ثالثاً:    غياب المنهج الوفاقي مع غياب البرنامج القومي المشترك،لذلك كانت التحالفات مسار صراع بين تحالف هش (بين خصمين - ختمية وأنصار)، أهدافه إقصائية وبين المجموعات المنافسة لهم في الانتخابات ممثلاً في الوطني الاتحادي([13]).
وهذا يفسر سر توافق الختمية والأنصار على إنهاء الفترة الديمقراطية بتدبير الانقلاب عليها وتسليم السلطة للجيش عندما فشلا في احتكار السلطة.وأسدل الستار على التجربة الديمقراطية الأولى في البلاد، وتركت الوضع السياسي على ثلاثة تحالفات سياسية، وهي تحالف الختمية والأنصار كداعمين للقوات المسلحة سلطة جديدة، وتحالف الوطني الاتحادي مسنوداً من الطرق الصوفية، وتحالف الجبهة المعادية للاستعمار([14]).والناظر للتجربة الديمقراطية الأولى يعتقد أن حداثة التجربة هو السبب في فشلها، ولكن عندما يربط ذلك بالمعايير الحقيقية للممارسة والفكر السياسي([15]) ، يجدها بعيدة كل البعد عن الممارسة وفق معاييرالديمقراطية، بل هي هرجلة سياسية لا تنشيء نظاماً سياسياً مستقراً.



([1]) دراسات استراتيجية – يصدرها مركز الدراسات الاستراتيجية- الخرطوم –العدد 25- 2008م – ص129.

([2])  شمس الهدى إبراهيم إدريس – الثورات العربية حتمية التغيير وقسوة التنحي – الجزء الأول – مطابع السودان للعملة – الطبعة الأولى – ص 161.

([3]) هنري كيسنجر – النظام العالمي الجديد (تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ) دارالكتاب العربي بيروت 2015 – ترجمة د. فاضل جتكر- ص 129-130.

([4]) الدكتور سرحان غلام حسين العباسي- التطورات السياسية في السودان المعاصر 1953-  2009 (دراسة تاريخية وثائقية) مركز دراسات الوحدة العربية 2011م – ص 89.

([5]) أ.د. حسن على الساعوري – كيف يحكم السودان مصدر سبق ذكره – ص 19.

([6]) صمويل هانتنغتون مصدر سبق ذكره – ص 6- 7.

([7]) أ.د. حسن على الساعوري – كيف يحكم السودان مصدر سبق ذكره – ص 31.

([8]) المصدر نفسه – ص  88.

([9]) صمويل هانتنغتون مصدر سبق ذكره – ص 198.

([10]) د.معتصم عبدالقادر مصدر سبق ذكره – ص 118.

([11]) أ.د. حسن على الساعوري – كيف يحكم السودان مصدر سبق ذكره – ص 95.

([12]) المصدر نفسه – ص 95.

([13]) المصدر نفسه – ص 101.

([14]) المصدر نفسه – ص 102.


([15]) شمس الهدى إبراهيم إدريس -  المؤبدون في سجن الوهم وخدعة الديمقراطية –– ص-75.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق