الثلاثاء، 29 أكتوبر 2019


مقالات محكة في
مستقبل النظــام الســياسي في الســودان
د. شمس الهدى إبراهيم إدريس
(12) الدولة المهدية 1885م - 1898م
عند رجوع شارلس جورج غردون للسودان في عام 1877م كحاكم عام وجد المشاكل تحيط به من كل الجهات، ذهب أولاً إلى مصوع لمحاولة عقد اتفاق مع اثيوبيا وفشل في ذلك وثارت القلاقل في دارفور بين السلطات والضباط المصريين من جانب ومن سليمان ابن الزبير رحمة من جانب آخر وفي ذات الوقت نشبت حروب محلية في الاستوائية ومن الواضح أن غردون لم يجد الوقت الكافي لمجابهة مشاكله الإدارية في رئاسته أو التصدي بقدر كاف للفوضي التي أحاطت به من كل جانب وكان الفقر المدقع والخراب والفساد والعجز متفشياً في كل البلاد وفي عام 1879م وللمرة الثانية قدم غردون استقالته وسافر للقاهرة ليجد ان تركيا قد خلعت تحت ضغط الأوربيين الخديوي اسماعيل وعينت ابنه محمد توفيق خلفاً له.
هكذا أُعد المسرح للثورة وظهر في عام 1881م محمد أحمد الدنقلاوي وكان عمره ثلاثة وثلاثين عاماً وكانت قوته تتمثل في حماسه الدافق للإصلاح الديني وقدراته الطبيعية على قيادة الناس، اما تردي الأحوال في كافة البلاد وانهيار أي مظهر للادارة النظامية فقد ساعدا على اتاحة الفرصة والزخم للثورة .
في عام 1881م وبعد أن استعمل المهدي حكمته في تجنيد بقارة كردفان المحاربين لصفوفه وأعمل سيوفه التي أرسلت لاعتقاله أعلن في الجزيرة أبا بالنيل الأبيض أنه المهدي المنتظر والمرشد الإلهي للخلاص. وكانت الاستجابة فورية من جميع أنحاء السودان كما ساعد تأخير تنفيذ القرارات التي اتخذت لقمع الثورة في تحفيز المتمردين إذ كانت مصر قد أفلست بحلول عام 1881م وكانت ركائز مجتمعها على وشك الانهيار وكان الجيش المصري يفتقد التدريب والانضباط والمرتبات وعند نداء عرابي باشا الوطني تمرد الجيش على الخديوي وعلى أعوانه الأجانب وقد تزامن ذبح الأوربيين في الأسكندرية مع نجاح المهدي في كردفان.
هزم عرابي باشا في موقعة التل الكبير وحل الجيش المصري وكلف سير ايفلين وود بتشكيل جيش مصري جديد بقيادة سردار بريطاني وضباط بريطانيين ومصريين، لقد كان الغرض الأساسي من تكوين الجيش أن يكون قوة درك مكونة من لواءين من الفلاحين ولكن مع تزايد الخطر من السودان توسع في جلب جنود من مصر والسودان ([1]).
فيما تقدم تم وصف الحالة السائدة في مصر و السودان عند اندلاع الثورة المهدية ولا يستغرب المرء من عجز السلطات المصرية في مصر وعجز ممثليهم في الخرطوم عن اتخاذ أي إجراءات أو تدابير أما بريطانيا فلم تبد أي تفهم أو اهتمام بأحوال السودان، لقد كان هناك بريطانيون يحتلون مواقع مهمة في السودان ولكنهم كانوا موظفين لدى الحكومة المصرية التي عينتهم ولا يتبعون الحكومة البريطانية ولا أعمالهم ولا مصيرهم كان يثير الهواجس لديها([2]).
نشأة الدولة المهدية
برزت فكرة المهدي ونمت نتيجة الضربات المتلاحقة التي منيت بها الخلافة الإسلامية في تركيا، وامتد فساد الحكومة وطالت يدها بعض شيوخ الطرق الصوفي، وروجت بعضها لقرب ظهور المهدي المنتظر، ليظهر يوماً ما فيملأ الأرض عدلاًَ ونوراً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً وسينتظرون قدومه ليهدي الناس، فحملت الفكرة منذ نشاتها الأمل المرتقب والهداية، وراجت الفكرة فترات الشدة والبطش والتسلط الذي استشرى عبر تأريخ الدولة التركية([3]).
لم يكن تداول فكرة المهدي المنتظر مقصوراً على دائرة العلماء بل تسربت الفكرة بدرجة وأخري إلى وعي العامة، حيث شكلت مع الموروث الشعبي عن المهدي المنتظر ذلك المنقذ المنتظر وأصبح المهدي حاضراً في التراث الاسلامي السوداني حتي تهيأت الظروف التي جعلته وهج العصر وديدنه وقلب حركته. وعندما كان أهل السودان يصارعون الحكم التركي المصري ويهزمهم كان الإسلام بمورثاته هو ملاذهم من عسف الحاكم ومن تلك المعاناة وجدت فكرة المهدي المنتظر دفعة تاريخية أبرزتها على مسرح الاحداث في السودان([4]).
عندما أعلن المهدي في أغسطس 1881م أنه المهدي المنتظر،وطلب من أتباعه أن يتوحدوا للجهاد، وانتشر الأتباع على أصقاع البلاد لتوحيد الجهود تحت راية المهدي([5]).
كانت تلك البداية لشكيل الثورة المهدية التي وضعت نفسها في مواجهة الحكم التركي المصري. فحركت السلطة في الخرطوم قوة بقيادة يوسف باشا الشلالي للقبض على المهدي وإحضاره للخرطوم، ولكن هزم المهدي تلك القوة في مايو 1882م، وطالب الحاكم العام عبد القادر باشا أن ترسل له امدادات ولكن بدون جدوي حيث كانت مصر على أبواب ثورة عرابي ولم يكن لها جيش يذكر([6]).
عقب هزيمته لقوات الحكومة في الجزيرة أبا هاجر المهدي إلى قديروكثر أتباعه، وهنا توسعت المعارك بين الحكومة وأنصار المهدي في جميع أركان الدولة، وكانت الإنصارات حليفة للمهدي([7]).
كانت الأخبار من الخرطوم تترى عن خطورة الموقف وتتحدث عن احتمال سقوط الخرطوم وانتشار الثورة ونوايا المهدي بغزو مصر انزعجت السلطات البريطانية في مصر، ونصح السير ولسن المستشار العسكري بإعادة تعيين غردون لتولي الإدارة المدنية والعسكرية وإرسال بعثة عسكرية للخرطوم وكمناورة تم إرسال فرقة هندية عسكرية إلى سواكن، ولم يتجاوب وزير الخارجية البريطاني اللورد قرانفيل مع الطلب وظل يؤكد أن المسؤلية تقع على عاتق الحكومة المصرية وعليها أن تعمل ما تراه مناسباً.
حاصر المهدي الأبيض وسقطت في 17 يناير 1883م كما انحازت مناطق الجزيرة وسنار للمهدي وقررت مصر إرسال حملة إنقاذ إلى كردفان وعينت الجنرال هكس الضابط السابق بالجيش الهندي ليقوم بهذه المهمة، فألحق جيش المهدي هزيمة بقوات هكس باشا، كما استسلم سلاطين باشا في دارفور، وحاصر عثمان دقنه الحاميات المصرية في ساحل البحر الأحمر وفي كسلا وشرع في قطع خطوط الاتصال مع النيل، وفي الجنوب ثار الدينكا.
ظلت الحكومة البريطانية ترفض بعناد إرسال أي قوات بريطانية أو هندية للدفاع عن السودان، لقد كان جلياً لممثلي بريطانيا المدنيين والعسكريين على حد سواء أن الحل العملي الوحيد هو أن تسحب حامياتها من داخل السودان وتكتفي بموانئ البحر الأحمر وبخطوط الاتصال عبر بربر إلى الشمال .
أعلن غردون عند وصوله إلى بربر أنه سيعيد البلاد لحكامها السابقين وعند وصوله للخرطوم وجد أن عدداً كبيراً من الأوربيين قد غادروها وبدأ فوراً في إجراء اصلاحات جذرية وخفض الضرائب وأخرج المساجين أما قراره بعدم رغبته في نزع الرقيق من أصحابهم فقد قوبل بترحاب شديد ولكن تأثير هذه الإجراءات كان وقتيا. ولم تضعف تلك الإجراءات موقف المهدي الذي رفض كل ما قدم له من عروض او مبادرات، وفي أغسطس 1884م أصبح المهدي حاكماً على كل أنحاء البلاد عقب قتل غردون في الخرطوم([8]).
نظام الحكم والإدارة للثورة المهدية
كان أول تنظيم إداري في الثورة المهدية هو تنظيم القوات، بعد أن هاجر إلى قدير وكثر أتباعه، فواجهته مشكلة تنظيم قواته للسيطرة على النظام والأمن بين صفوف أتباعه، فقسم الجيش إلى أربع رايات الراية البيضاء وهي خاصة به وهي راية القيادة،ثم الراية الزرقاء بقيادة الخليفة عبد الله، والراية الخضراء بقيادة الخليفة على ودحلو، ثم الحمراء تحت قيادة الخليفة شريف. كما واجهت المهدي مشكلة السيطرة على المحاربين بتنظيم الغنائم وتوزيعها فأنشأ جهاز المالية (بيت المال)([9]).
 بعد انتصار المهدي وتسلمه السلطة تضافرت عدة عوامل حافظت على توازن القوى إبان فترة حياته فوضعه المميز بصفته خليفة رسول الله أبعد أي منافس له على المنصب كما أن فكرة المهدي المنتظر احتوت التمايز القبلي والطائفي والإقليمي فكانت تعبيراً عن الطموح القومي واًصبح الجهاد ضد الحكم الأجنبي عاملاً موحداً والقضاء على ذلك الحكم هدفاً تجسد فيه طموح الناس، كما ترسخت مكانة المهدي وبرت مقدراته القيادية واتصفت سياساته وموافقه بالبعد عن التحيز لأهله وعشيرته أو لقبيلة على أخرى أو طائفة على طائفة ([10]).
هذا الوضع أظهر ملامح نظام الحكم الجديد لأول دولة سودانية موحدة تحت قيادة سودانية أعقبت استعماراً دام لأكثر من ستين عاماً، فكان النظام السياسي يرتكز على تحالفات مع رجلات الدين والطرق الصوفية وأفراد المجتمع، وكانت (البيعة) هي أول الوسائل التي استخدمها المهدي لتحقيق التحالف السياسي، فالبيعة كانت بمثابة العهد والميثاق الذي يعلن الوافد الجديد إلى صفوف المهدية بمقتضاه التزامه وتقيده بشروط ذلك المجتمع المهدوي، ثم الجهاد والذي كان دعامة من دعامات المهدية الأساسية([11]).
باشرت المهدية إحداث التغيير الاجتماعي عبرأربع وسائل، أولاها الدعوة ثم البيعة وتليها الهجرة وآخرها الجهاد([12]).
 وأرادت من ذلك أن تخلق مجتمعاً مهدوياً مبنياً على طاعة السلطان، وهذا يجعل من النظام السياسي نظاماً مركزياً للحكم في السلطة والسياسة.
كما اتبع المهدي المساواة بين أفراد المجتمع دون تمييز، حيث لا نعمة إلا نعمة الدين، ولا كرم إلا كرم التقوى، ولا حسب إلا حسب الامتثال لأمر الله، وهذا مطبق حتى بالنسبة للرقيق، وطبق النظام مبدأ الشورى لكل أفراد المجتمع دون تفريق بين مكوناته الاجتماعية([13]).
كانت إدارة المهدي إدارة حرب لتثبيت أركان الدولة ضد أي تمرد أو عدوان، فقسم جيشه إالى ثلاثة رايات: الراية الزرقاء راية الخليفة عبد الله وتحتها جميع أهل الغرب، الراية الخضراء وهي راية الخليفة على ودحلو، والراية الصفراء وهي راية الخليفة شريف([14]).
حدد المهدي تحديداً واضحاً خلافة عبدالله وتاكدت تلك المكانة في مجرى الثورة المهدية، حيث كلف الخليفة برئاسة مجلس الأمناء وهو مجلس إداري تنفيذي استشاري وترفع قراراته للمهدي للموافقة عليها ويتولي حل النزاعات التي تنشب بين القبائل والأفراد وكان المهدي ينيب الخليفة عنه في إمامة صلاة الجمعة([15]).
كما لعب الجيش دوراً مهماً في جهاز الدولة المهدية استمده أولاً من من الجهاد ضد الحكم السابق واستمر يلعب دوره بعد انهيار ذلك الحكم فشارك في الصراع على السلطة وفي الحروب الداخلية والخارجية حتي وصفت الدولة المهدية بأنها دولة مقاتلة في حالة حرب مستمرة ولعل المهدي هو أول حاكم سوداني ينشئ جيشاً نظامياً متفرغاً في تاريخ السودان الحديث، وهذا أحد مقتضيات الدولة المركزية([16]).
أخذت الدولة المهدية بكثير من أدوات النظام السابق للدولة التركية المصرية في نظامها الديواني وحولت موظفيها لخدمتها واعتمدت لحد كبير على الأسس التي تم بها تقسيم المديريات التركية المصرية من حيث سيطرتها على البلاد مركزياً([17]).
الإدارة في عهد الخليفة:
بعد وفاة المهدي بايع الأنصار الخليفة عبدالله حاكماً على السودان خلفاً لمحمد أحمد المهدي وواجهته بعض المعارضات من قبل المهدويين والقيادات التأريخية للثورة المهدية، فاستعاض عنهم بآخرين من أهله وعشيرته والمقربين إليه. فقسم البلاد إلى أقسام لتسهيل عملية إدارة الدولة بشكلها الجديد، حيث كانت منطقة الجزيرة والضفة الشرقية من النيل الأزرق، مقسمة إلى عشرين قسماً، خضع كل منها لرقابة موظف أطلق عليه (وكيل)([18]).
وكانت البلاد مقسمة إلى أقاليم وهي دنقلاو بربر والقلابات وكركوج والجزيرة وفشودة ولادو فضلاً عن المراكز الاخرى، أي أن الدولة مقسمة إلى مراكز إدارية، بكل مركز وكيل من البقارة بجانب الزعيم القبلي من غير البقارة([19]).
كان الخليفة قد قام بإحلال كل القادة والوكلاء من القبائل الأخرى وتم أحد من البقارة محله([20]).
كما كان القضاء هم من تلك الفئة، وكانت هناك دلائل تشير إلى نشوء دولة إقطاعية في شكل نظام أبوي خاص بالعصبية القبلية لدى القبائل الرعوية الرحل وشبه الرحل([21]).
وأضحت اتحادات القبائل هي الشكل السياسي لمعظم التنظيمات السياسية لقبائل الرحل، وأصبحت بعض القبائل كالبجا ضعيفة وقويت شوكة السلطة المركزية، وتركزت السلطة المركزية في أيدي الفئة القليلة الحاكمة بقيادة الخليفة وأصبح الخليفة السلطة المطلقة([22]).
النظام الإداري للدولة المهدية خليط من عدة روافد فكان الرافد الديني أهمها إذ استمدت السلطة المركزية قوتها وشرعيتها من فكرة المهدي المنتظر فالمهدي استمد سلطته من تفويض إلهي في حضرة نبوية فهو خليفة رسول الله واستمد الخليفة سلطته من تفويض إلهي من المهدي في حضرة نبوية فهو خليفة المهدي فأصبح رأس الدولة يتمتع بسلطات واسعة ليس له فيها منازع والذي يختلف معه في حكمه انما يخالف التفويض الالهي فتحولت فكرة المهدي المنتظر إلى إدارة سيطرة في ظل الدولة([23]).
واحتل بيت المال منصباً هاماً في الجهاز المركزي للدولة إذ كان جهازاً مالياً واقتصادياً وصناعياً وتجارياً ومن المناصب المركزية وكيل الهجانة وهو المسئول عن الجمال التي تستخدم للترحيل والبريد .
أسباب انهيار الدولة المهدية وسقوطها
بوفاة المهدي فقدت الثورة المهدية قيادتها الملهمة، وفي ذات الوقت كانت الحركة قد وصلت إلى قمة انتصاراتها داخل السودان ولم يكن في استطاعتها الخروج عن السياج الذي فرضته القوة الخارجية خارج حدود السودان، مما فتح باب الصراع بين القوة التي قامت على أكتافها الثورة([24]).
ركز الخليفة عبد الله على أبناء الراية الزرقاء ولم يكسب ود الرايات الأخرى التي قسمت على نمط إقليمي وليس على نمط قومي. فأوكل الخليفة قيادات الرايات إلى أخيه يعقوب، مما قوى نفوذه على الخليفتين الذيين فقدا نفوذهما ومكانتهما لعدم ثقة الخليفة فيهما وأصبحت عملية قيادة الجيش وظيفة إدارية أكثر من كونها قيادة حربية([25]).
أصبح الخليفة مهتماً بتأمين خلافته. وحاول الخليفة محاولة السياسة القديمة في الجهاد والدعوة دون مراعاة مستجدات الأمور، بمعنى أنه لم يستحدث مواعين سياسية جديدة تستوعب التطورات الجديدة على الساحة السياسية وبدأت المهدية تفقد بريقها مع تطور الأحداث خاصة عندما حدثت هجرة الأرياف إلى المدينة (أم درمان) الأمر الذي أفقر القرى بعد أن تعرضوا إلى كثير من المشاكل الزراعية والتجارية([26]).
اهتمت حركة المهدية بالجانب الديني ولم تلتفت إلى الجانب الدنيوي، مما أدى إلى مقاومتها من بعض فئات المجتمع السوداني([27]).
بعد وفاة المهدي مباشرة اجتمعت كل القيادات لاختيار خليفة له، وأظهر الأشراف رغبتهم في أن يكون الخليفة شريف هو الذي يخلف المهدي وعارضهم بقية الحاضرين وثار جدل بين الفريقين وظل الخليفة عبد الله صامتاً وحسم الفكي الدرديري الموقف عندما نهض وبايع الخليفة عبد الله ثم تبعه الخليفة على ود حلو وأحمد شرفي ولم يجد الأشراف مناصاً من المبايعة وجاء الخليفة شريف آخر المبايعين، هذا الشكل جعل الخليفة يعتمد على عشيرته وانهزمت فكرة المهدي المنتظر كأداة توحد مختلف القبائل مما أضفى على الدولة بعداً مسيطراً آخر .
في ظل تصاعد الأحداث الداخلية حاول الخليفة عبد الله الدخول في حروب خارجية مع مصر والحبشة. فبدأت محاولات الضغط على الخليفة من خارج السودان. بالإضافة لتفكك الجبهة الداخلية ومحاولة النيّل من الخليفة وأصبح الهم هم مصالح لا هم دولة. مما أتاح للقوى الخارجية أن تعمل وسط المجتمع المناوئ للخليفة. وكان صراعاً على السلطة أي الصراع هدفه من يحكم وليس كيف يحكم السودان، وفقدت الدولة التوافق السياسي ومارس الخليفة سياسة الإقصاء لمعارضيه، في وقت بدأت عملية الاستقواء بالأجنبي للتخلص من حكم الخليفة، وانفرط عقد التحالفات بين قيادة الدولة، وبالتالي فقد السودان الاجتماع السياسي، وأصبح عرضة للمزايدات السياسية مما سهل مهمة العدو الأجنبي الذي استغل الوضع السياسي المضطرب.
كما كان هناك عوامل خارجية أدت إلى سقوط الدولة المهدية، وهي أن الدولة المهدية تكونت بعد صراع ضد القوى الأجنبية وفي خضم التنافس الاستعماري على إفريقيا الذي اشتعل بعد مؤتمر برلين عام 1884 – 1885م ولم يقتصر ذلك الخطر على الشمال بل بدأ يناوش الدولة المهدية من الغرب والشرق والجنوب ثم دخلت الحبشة عنصراً في ذلك الصراع عندما تحرشت بالدولة المهدية وساهمت في سحب الحاميات المصرية من القلابات فكان على الدولة أن تدافع عن كيانها إزاء تلك الأخطار التي تحف بها([28]).
وظهرت دولة أوربية أخرى في المسرح هي بلجيكا، فبعد احتلالها للكنغو أخذت تتطلع للتوسع في أعالي النيل، فرأت بريطانيا أن تتعاون معها ضد فرنسا وضد الدولة المهدية .وحاولت قيادة الجيش البريطاني الاستفادة من النزاعات وحركات المقاومة التي كانت سائدة بين الشعب وحكامه، فأمدت رجال المقاومة والمتمردين على المهدية، كما شكلت مقاومات اتحادات القبلية الداخلية في مواجهة عملية تدريب القبائل، مماشكل خطراً هدد نشوء الدولة([29]).
فبدأ غزو السودان من جبهات عديدة، ما أدى إلى سقوط الحاميات والمدن مدينة تلو الأخرى في يد جيش الغزاة حتى قتل الخليفة عبد الله وأتباعه في أم دبيكرات وانتهت وسقطت الدولة المهدية، وأصبح السودان تحت الاحتلال الثنائي الإنجليزي المصري.
عموماً تعتبر الدولة المهدية هي أول تجربة سودانية في إدارة الدولة السودانية الموحدة، التي أعقبت فترة حكم أجنبي على البلاد.حيث كانت المهدية هي نتاج تحالف بين القيادة السياسية ممثلة في شخصية محمد أحمد المهدي ومكونات المجتمع السوداني الذي يرتكز على البعد الديني (الطرق الصوفية والعلماء والفقهاء والبيوتات الكبيرة) التي تكونت بشكل موسع إبان الحكم التركي المصري، فكان محور ذلك التحالف هو الدعوة المهدية في محاربة أعداء الله، مما أتاح لتكوين اجتماع سياسي وتوافق اجتماعي ساعد على تكوين الدولة المهدية.
ظهرت بعض المسالب في العلاقة بين المهدي وبعض رجالات الدين، ولكنها كانت تصب في الحراك لتكوين المجتمع السوداني،ولم تؤثر في شكل الهيكل العام للدولة الوليدة،خاصة وأن المهدي وأتباعه لم تكن لهم سابق خبرة في إدارة الدولة وكان يتلمس الطريق، والدليل على ذلك تراجعه عن بعض الإجراءات التي اتخذها في بعض المسائل الاجتماعية التي حاول أن ينظم بها حياة المجتمع. وتكونت الدولة المهدية بعد صراع ضد القوى الأجنبية، وأصبح بناء الدولة المهدية يعتمد على قدرتها في الدفاع عن كيانها ضد احتمالات الخطر الذي قد يهدمها، لذلك لم يكن للدولة المهدية نظام سياسي واضح، ولكن هناك اجتماع سياسي.
حدث في بدايات الثورة المهدية وحدة قومية للقبائل أخذت شكلاً معيناً خلال الحروب والصراعات والمقاومة المستمرة، من خلال انصهار قبائل السودان في بوتقة واحدة، وكانت هناك هيئة مركزية آمرة واحدة وهي مجلس القبائل المستديم. كانت المهدية معتمدة على شخصية المهدي كقائد وزعيم ديني حقق انسجام سياسي بين مكونات المجتمع السوداني الذي يدين بالإسلام، وظهر ذلك بعد وفاته وتولي خليفته عبد الله التعايشي زمام قيادة الدولة، ولكن عدم تفاعله وتوافقه مع محيطة، فرط عقد الاجتماع السياسي للدولة وتصاعدت المنازعات وبدأت الاستقطابات بين مكون الدولة، وظهرت المعارضات بعد أن جرت تغييرات كان طابعها الإقصاء السياسي وعدم الإعتراف بالآخر من قبل رأس النظام، ما قاد إلى تفكك كيان الدولة، وغابت العدالة والمساواة داخل منظومة الدولة المهدية، الأمر الذي قاد إلى انهيار النظام السياسي برمته.


([1]) سير هارولد ماكمايكل – السودان – مركز عبد الكريم ميرغني الثـقافي – أم درمان – 2009م- ص61-64.
([2])  نفس المرجع السابق  - ص 65 .                
([3]) د. معتصم عبد القادر – مصدر سبق ذكره - ص 99.
([4])  محمد سعيد القدال،  مرجع سابق - ص 157  - 160 .
([5]) سيرجي سمرنوف – دولة المهدية مصدر سبق ذكره -ص35.
([6]) المصدر نفسه – ص 37.
(([7] ذات المصدر – ص 39.
([8]) د. معتصم عبد القادر الحسن –مصدر سبق ذكره – ص 102.
([9]) محمد محجوب مالك- المقاومة الداخلية لحركة المهدية – دار الجيل بيروت 1987م – ص 41.
([10]) المصدر نفسه – ص 103.                                                   
([11]) د. عثمان السيد محجوب – مصدر سبق ذكره – ص 92.
([12]) المصدر نفسه – ص 91.
([13]) ذات المصدر – ص 92.
([14]) نعوم شقير تاريخ السودان – الدار السودانية للكتب – ص 535.
([15]) د. معتصم عبدالقادر الحسن مصدر سبق ذكره – ص 104.
([16]) المصدر نفسه – ص 106.
([17]) د. معتصم عبد القادر مصدر سبق ذكره – ص 105.
([18]) سيرجي سمرنوف – دولة المهدية مصدر سبق ذكره – ص 124.
([19]) المصدر نفسه – ص 124.
([20]) البقارة هم أفراد القبائل الذين كانوا تحت رايته (الراية الزرقاء)، وكان الخليفة غير مطمئن لقادة الرايات الأخرى.
([21]) سيرجي سمرنوف مصدر سبق ذكره – ص 126.
([22]) المصدر السابق -  ص 126.
([23]) د. معتصم عبد القادر الحسن مصدر سبق ذكره – ص 104.
([24]) محمد محجوب مالك مصدر سبق ذكره – ص 43.
([25]) المصدر نفسه – ص 45.
([26]) ذات المصدر – ص 46.                                                                          
([27]) المصدر السابق – ص 47.
([28]) محمد سعيد القدال مصدر سبق ذكره – ص 272.
([29]) سيرجي سمرنوف مصدر سبق ذكره – ص 129.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق