الدولة
المدنية الممارسة والتطبيق
هل يقود
الحراك الثوري في السودان إليها؟
مدخل
نشأت فكرة الدولة المدنية في اليونان القديم ،ثم انتقلت إلى أوروبا الحديثة ،فأخذت الدولة مسارا سياسيا جديدا مغايرا،
بعد أن نشأت على أنقاض سلطة الاستبداد الإقطاعية الكنسية، وأهم وظيفة ارتكزت عليها
تطبيقيا هي آلية الاحتكام لسلوك العقد الاجتماعي الذي يتطلب احتراما والتزاما
متبادلا بين كافة أفراد المجتمع دون أدنى استثناء بالنسبة للحقوق والحريات
والوظائف والواجبات، سواء كانت مادية أم معنوية، وأسلوب الاتفاق اجتماعيا وسياسيا
مابين المواطنين، يتم تفعيله بواسطة تشكيل المنظمات والأحزاب السياسية غير
المتصارعة بل المتنافسة فيما بينها التي تضم طيفا محددا من الأفراد، يتبنون مبادئ
وأهدافا تتضمن احترام الحريات والحقوق العامة والخاصة لكافة المواطنين بموجب دستور
العقد السياسي، ونتيجة لهذه الثقافة وقيمها وتطبيقاتها تم إبعاد سلوكيات التعصب
بمختلف أنواعه عن المجال السياسي داخل نطاق الحكومة ونظمها الإدارية، بأعتبار أن
ثقافة التعصب تتضمن إقصاءاً سياسيا لطيف أو طوائف اجتماعية من قبل فئة متعصبة
مستبدة سواء كانت تنتمي إلى طائفة دينية أو مذهبية أو قبلية أو قومية أو عرقية أو
سياسية، وبهدف توفير فرص المساواة بين المواطنين خاصة في مجال الحقوق السياسية
نشأت نظرية الدولة المدنية البعيدة عن الاستبداد والتهميش.
برز
مصطلح الدولة المدنية في أتون الثورات العربية، فردد هذا الشعار في هتافات
المحتجين والثوار ، مطالبين بالدولة المدنية. وتفاوت مفهومة من دولة لأخرى ،ولكنه
عمم دون مراعاة لمفهومة العام الممثل في حماية جميع مكونات المجتمع بغض النظر عن
أختلاف انتماءاتهم الدينية والقومية والفكرية.كما يعني المصطلح اتحاد وتعاون
الأفراد الذين يعيشون داخل مجتمع يسير وفقاَ لنظام ودستور وقوانين. ومن الشروط
الاساسية لقيام الدولة المدنية هو
ألا يتعرض أي فرد في هذه الدولة لإنتهاك
حقوقه من طرف أخر إلا بسلطة قانونية
مبادئ ومرتكزات الدولة المدنية
تُأسس
الدولة المدنية على مبادي لابد من الإحتكام إليها أهمها المواطنة ، وهي تعني أن
الأفراد في المجتمع لا يعرفون بدينهم أو مهنتهم ، أو مالهم ، أو إقليمهم، إنما
يُعرفون بشكل قانوني اجتماعي ، وأنهم مواطنون لهم حقوق وعليهم واجبات، ومجتمع
مُكون من علاقات قائمة على قبول الأخر والتسامح والسلام، علاوة على المساواة في
الحقوق والواجبات.لتأسيس الدولة المدنية.فهذه القيم التي تُكون الثقافة المدنية
التي تشكل القواعد التي تمثل الخطوط
الحمراء التي لا يسمح تجاوزها. أما المبدأ الثاني الديمقراطية وهي المبدأ الذي
يمنع أخذ الدولة واحتكارها غضباً من فرد أو نخبة أو أي كتلة سياسية.وأعظم مبدأ
ومرتكز للدولة المدنية ، هو تأسيس نظام مدني من العلاقات التي تقوم على السلام
والتسامح وقبول الأخر والمساواة في الحقوق والواجبات.هذا يتطلب تعظيم مبدأ الثقة
في عمليات التعاقد والتيادل المختلفة بين مكونات المجتمع وفق عقد اجتماعي، الذي
يتنافى مع الفوضى التي تحكمها مشاعر القوة والغضب والسيطرة التي تفتقد للروح
المدنية التي تتسم بالتسامح والتساند والتعاون من أجل العيش المشترك بعيداً عن
الأقصاء المتعمد.
إن
تأسيس الدولة المدنية هو الكفيل بسيادة هذه الروح التي تمنع الناس من الاعتداء على
بعضهم البعض من خلال تأسيس أجهزة سياسية وقانونية خارجة عن تأثير القوى والنزعات
الفردية أو المذهبية، تستطيع أن تنظم الحياة العامة وتحمى الملكية الخاصة، وتنظم
شؤون التعاقد، وأن تطبق القانون على جميع الناس بصرف النظر عن مكاناتهم
وانتماءاتهم وتمثل الدولة إرادة المجتمع.
إذاً
الدولة المدنية هي دولة الموسسات جميعها ومكونات المجتمع، بحيث تتكامل أدوار تلك
المجموعات وتقوم بأدوارها وواجباتها دون تعدي ووفق القانون .وواجباتها توفير فرص
العمل والعيش الكريم لمواطنيها اشتراكهم في عملية الإنتاج ، وتجنب تحولهم إلى
عاطلين يلحقون الضرر بمنافع بقية المواطنين.. علاوة على توفير المناخ الأمني
والاستقرار النفسي لكل المواطنين، باعتبار أن الحاجة إلى الأمن ضرورة اجتماعية
ونفسية لايمكن الاستغناء عنها.بالإضافة إلى تهيئة سبل التعبير عن حرية الرأي بشتى
الطرق وفق ضوابط قانونية محددة ورسمية، وحرية التعبير هذه مفتوحة ومتاحة في مجالات
عديدة منها حق الاشتراك في تحديث السلطة التشريعية ترشيحا وانتخابا، وإبداء وجهة
النظر عبر الصحافة الحرة وتفعيل سلوكية الاحتجاج والتظاهر والاجتماع وإقامة
المؤتمرات والندوات، وتأسيس المنظمات والاتحادات والنقابات المدنية للدفاع عن
الحقوق وممارسة عملية تثقيف أعضائها بضرروة المحافظة على مسؤولياتهم المهنية
والاجتماعية لتطبيق قيم الثقافة المدنية. وبناء موسسات الدولة والحفاظ عليها
والحفاظ على البيئة. وعدم السماح بالتداخل في الوظائف والحقوق بين المؤسسة
العسكرية الاستثنائية وسلطة الشرطة والأمن الداخلي باعتبار أن سلطتهما مدنية تعمل
على توفير الأمن للدولة داخليا وتنظيمه ضمن قطاعها العام وكذلك القطاع الخاص
إشكالية الدعوة للدولة المدنية
بالمنطقة العربية والإسلامية
هنالك
إشكالية معقدة في أنظمة الحكم، سواء الملكية منها أو الجمهورية، حيث الشعارات التي
يطرحها المحتجون هي شعارات المساواة أمام القانون، وحرية التعبير، وعدم انتهاك
حقوق المواطن، وغيرها من الشعارات التي يطمأن من يسمعها، ولكن دائماً مايصاحبها
ويسيطر عليها شعارات الإقصاء وعدم قبول الأخر ، كما تفتقد إلى الرؤية
لتنفيذها.فالدولة المدنية في منطقتنا تحتاج إلى العقلية السائدة لدى مختلف فئات
المجتمع ،التي هي الأخرى مطالبة بتقبل التغيير، وعدم تفصيله بالصورة التي تناسب
مصلحتها وإلغاء مصالح الجماعات الأخرى. ولعلّنا بحاجةٍ في الوقت الراهن إلى
مقاربات تتوسط الطموح المشروع بالسعي إلى تحقيق الدولة المدنية، وهذا لا يمكن
تحقيقه إلا من خلال احترام حقوق الإنسان، والابتعاد عن التعصب والتطرف الذي لايزال
قائماً للأسف في مجتمعاتنا ، ويشكل عائقاً مباشراً للوصول إلى حالة تعاقدية على
مستوى السياسة. المشكلة حالياً لا تقتصر بالضرورة على الأنظمة السياسية وحسب، إنما
هي مشكلة متعمقة لدى أفراد وجماعات تطالب بأطروحة الدولة المدنية.
مقومات
الدولة المدنية
تعتبر الشرعية السياسية والدستورية من أهم مقومات الدولة المدنية: تعني الشرعية السياسية أن الشعب هو من ينتخب السلطات ويمنحها الحق في خدمة مصالحه، أما الشرعية الدستورية فتقوم على الاتفاق والرضا المتبادل بين أفراد الشعب أنفسهم، وبينهم وبين السلطات الحاكمة على حد سواء.
مطلوبات وحظوظ قيام الدولة المدنية في السودان في ظل شعارات الحراك الراهن
تعتبر الشرعية السياسية والدستورية من أهم مقومات الدولة المدنية: تعني الشرعية السياسية أن الشعب هو من ينتخب السلطات ويمنحها الحق في خدمة مصالحه، أما الشرعية الدستورية فتقوم على الاتفاق والرضا المتبادل بين أفراد الشعب أنفسهم، وبينهم وبين السلطات الحاكمة على حد سواء.
مطلوبات وحظوظ قيام الدولة المدنية في السودان في ظل شعارات الحراك الراهن
السودان بلد تعددية مركبة ،والدين مكوناً رئيساً ومركز السلطات
في المجتمع السوداني وتطور نظامه السياسي منذ الممالك المسيحية الأولى مروراً بالممالك
الإسلامية .علاوة على مدى العلاقة بين تلك التعددية المنفردة والسلطة وقوة نفوذه
ودعمه، في ظل سعي التعددية السياسية إلى توسيع نفوذها بأختراق المؤسسة العسكرية
لكي تعمل لصالحها، بالإضافة لعقد تحالفات خارج منظومة العقد الاجتماعي.فالسودان
أحد الدول ذات التركيبة التي دائماً ما تتبنى مكوناتها السياسية شعارات الإقصاء
وعدم قبول الأخر. ما يتطلب لقيام الدولة المدنية الانخراط في عملية التسامح
والإبتعاد عن شعارات الإقصاء ، والاتجاه لتطوير الفكر الاستراتيجي الذي يؤسس
للدولة المدنية ،وزرع ثقافة المدنية محل ثقافة عدم قبول الأخر، كما يحدث الآن. فهل
يمكن أن ينجح السودان في إرساء دولة القانون والديمقراطية والمواطنة المتساوية
وتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية وتمكين ما تفترضه الدولة المدنية العصرية؟،
وهل يتمكن من إنهاء حالة الانقسام والتشرزم ومحاولة الانتقام والاحتقان السياسي
والاجتماعي؟، البعض يؤكد أن قيام الدولة المدنية في ظل الشعارات الثورية يُعد
أمرأً صعباً ، لأن المطالبين بالدولة المدنية ليس على استعداد لتحمل أعباء التحول
إلى الدولة المدنية، نتيجة رفع شعارات متصادمة مع فكرة مشروع الدولة المدنية،
وسترفض الاندماج في المجتمع المدني ومؤسسات الدولة ومكوناتها.
عقب
الاحتجاجات التي خرج بها الشباب في ديسمبر2018، والتي طالبت بإقامة "دولة
مدنية"، فقد أخذ مشروع "الدولة المدنية إبعاد أغلب القوى السياسية، و
مؤسسات وركائز الدولة وقوتها وقدراتها" ، مما يُشير إلى أن المشهد السياسي لا
يُؤصل إلى هذا الهدف الذي يوجه القوى السياسية والحكومة خلال الفترة المقبلة،
وإنما من المتوقع أن يقع بشأنه خلاف - وربما صراع- كبير، فإلى جانب طرح شعار
الدولة المدنية في ميادين الثورة، فقد شهدت تلك الميادين حضورا مكثفا لعبارات
الإقصاء وعدم القبول بالأخر وطال الأمر حتى المؤسسة العسكرية التي تُعتبر من
مكونات الدولة المدنية.
هكذا
يشير الواقع السوداني بعد "الثورة"، إلى أن الدولة المدنية، وإن كانت
مطلباً أساسياً وهدفاً لشباب التغيير والقوى الليبرالية، إلا أنها قد لا تكون
الخيار الرئيس الذي تتفق عليه القوى صاحبة النفوذ العتيق في المشهد السياسي
السوداني.
كل
ما تقدم، إذا اتجه السودان نحو مشروع "الدولة المدنية" بجدية ستكون في
الفترة المقبلة على أسئلة رئيسة مطلوب الإجابة عليها من قبل الثوار ، فهل البداية
بإنفاذ مشروع الدولة المدنية وتنتهي من تشريعاتها أولاً، أم تحاول أن تمنع وتزيل
العوائق والشعارات التى تعترض قيام الدولة
المدنية، ومشكلاتها المزمنة المتمثلة حالة الاقصاء وعدم قبول الأخر، وحالة
الاستقطاب الحادة ، والتنافس العدائي والتناحر والصراع السياسي الذي سيطر على
المشهد السياسي منذ الاستقلال، وكان السمة الأبرز في كل حكوماتنا التي مرت على
السودان بلا استثناء.فالدولة المدنية أمامها فرصاً حقيقية ،وتحتاج لوعي شعبي مدرك
ومطلع لمفهوم الدولة المدنية ، وهذا غير متوفر حتى الأن ، مما يدخل شعار الدولة
المدنية في أزمة حقيقية ، لأن مفهوم الدولة المدنية لا يعني إبعاد الموسسة العسكرية
عن المشهد ،خاصة وأن المؤسسة العسكرية في السودان هي جزء أساسي في العملية
السياسية .فالمرحلة مرحلة توافق بين مكونات الدولة السودانية ومؤسساتها وليس مرحلة
إقصاء إذا أردنا دولة مدنية حقيقية.
د. شمس الهدى إبراهيم إدريس
الخرطوم - 2يونيو2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق