الأربعاء، 30 أكتوبر 2019


مقالات محكمة في
مستقبل النظــام الســياسي في الســودان
د. شمس الهدى إبراهيم إدريس

(26) ختـــــــــــام الحديـث
أن الديمقراطيات في الدول المستقرة تختلف من دولة إلى أخري، مما يقود إلى أن هناك محددات للديمقراطيات حتى نحقق الاستقرار السياسي في أي دولة من الدول فنجد أن في الولايات المتحدة الأمريكية ديمقراطية مستقرة ولكنها تختلف عن الديمقراطيات في بلدان مستقرة أخرى كما هو الحال في بريطانيا وفرنسا وسويسرا والهند وهي الأخرى تختلف ديمقراطياتها عن بعضها البعض وفي ذات الوقت تتمتع باستقرار سياسي ,كما اتبعت تلك الدول نظاماً ديمقراطياً يختلف عن الأخرى وكل حسب تكوينه المجتمعي بثقافاته ولغاته وأسلوبه في الحياة الساسية، وأن هناك تمايزاً سياسياً جسر الهوة بين المكونات الاجتماعية لكل دولة واجتماعاً سياسياً فيه إجماع عال على شرعية النظام السياسي وتنبع شرعية النظام السياسي , ويشترك المواطن وقياداتهم في رؤية المصلحة العامة للمجتمع. كما تتميز تلك الدول بمؤسسات سياسية قوية ومتماسكة ومنظمة ودرجة عالية من المشاركة السياسية الفاعلة تستمد قوتها من دستورها.
كما أن التطور السياسي في السودان، بدءاً بتجربة الممالك السودانية ومدلولاتها التي شكلت بنية قاعدية للمخيلة الاجتماعية العامة في السودان، ونجحت الممالك السودانية في جعل الدين عقداً اجتماعياً ونظام حياة شاملاً وعبره يمارس السلطان أو الملك صلاحياته من غير إكراه، فقد ارتضت القبائل ومكونات المجتمع المتعدد الأعراق والقبائل واللغات والأديان والثقافات نظم العلاقات بينها وعززت التعاون القائم في المجتمع قبل نشأتها.
تميزت النظم السياسية والإدارية في الممالك السودانية بخلق ثقة متبادلة بين المجتمع الحاكم، فكان ولاء الفرد للجماعة والدولة في درجة أعلى من ولائه للعائلة والعشيرة، وبالتالي الولاء لمؤسسات السلطة العامة.كما تناول الفصل فترة الحكم التركي المصري والثورة المهدية إضافة للحكم الانجليزي الذي أزاح أول دولة وطنية في السودان .فقد كانت تلك الفترات طابعها التحالفات بين الحكومة والمجتمع وكانت التحالفات هي المحدد الأساسي لنجاح تلك الحكومات وفشلها.
إن السودان يمتاز بتعددية مركبة بها كثير من نقاط الالتقاء بين المكونات الاجتماعية وهي مكان اجتماع سياسي إذا ما تمت إدارتها بصورة حسنة ويمكن أن تكون التعددية العرقية والتعددية القبلية تجمعها التعددية الدينية والتعددية الطائفية ويمكن لتلك التعدديات تجمعها التعددية الحزبية.فهذا يمكن أن يقود لإجماع سياسي لكل السودان.وهذا يقود إلى إمكانية رسم مستقبل النظام السياسي السوداني من خلال تلك التعددية بكل أشكالها، وسد الثغرات حتى يتسنى للسودان الاستقرار السياسي.
خُلاصة القول إن مستقبل النظام السياسي في ظل الحراك الإقليمي والدولي الذي يرتكز على الأقوى سياسياً واجتماعياً،مع التركيز على حرية الإنسان وكرامته، بالإضافة للمستجدات التي طرأت على المجتمع السوداني من عولمة وتمرد مسلح وتدخل أجنبي أثر في المنظومة الاجتماعية والسياسية والثقافية في مكونات المجتمع، مما ضاعف المتغيرات، وبالتالي على التعددية المركبة في السودان. مما صعب من فرص النجاح للنظام السياسي، لذلك يحتاج الأمر إلى تحالفات سياسية إيجابية وتقنيات دستورية خاصة.وتعددية مركبة (اجتماعية، وعرقية، وطائفية، وسياسية، وإقليمية)، يصعب معها تناول القضايا المختلفة بقاعدة الأكثرية والأقلية، ولكنها تعالج بواسطة المنهج الوفاقي بين الأطراف المختلفة. وهذا يحتاج لوعي ديمقراطي كاف، والاهتمام بالقيم التي تحقق التعايش السلمي بين الشركاء في العملية الديمقراطية، للنهوض بالنظام السياسي.وأن النظام البرلماني أدى إلى عدم استقرار الحكومة وأنه نظام غير فعال ويحتاج إلى وعي وادراك سياسيين عاليين إضافة إلى تعميق التجربة الحزبية .وأوفق للسودان النظام الفدرالي الذي من شأنه أن ييسر معالجة القضايا الحيوية التي لايحسمها عدد الأصوات ولابد للمكون المحلي أن يكون له دور في حلها.فالنظام الفدرالي تكون فيه السلطات مقسمة دستورياً بين حكومة مركزية (فدرالية) أو (اتحادية) وحكومات ولايات أو أقاليم، ويكون كلا المستويين من الحكومة معتمداً على الآخر،ويتقاسمان السيادة في الدولة، أما ما يخص الولايات والأقاليم فهي تعتبر وحدات دستورية لكل منها نظامها الأساسي الذي يحدد سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويكون ذلك منصوصاً عليه في دستور الدولة، بحيث لايمكن تغييره بقرار أحادي من الحكومة المركزية.
هذا يضمن توزيع السلطات، ويجسد نظام الحكم تقسيماً كبيراً في السلطات بين المركز والأقاليم أو الولايات، على أن يستقي النظام الفدرالي سلطاته من الدستور وهو السلطة العليا.
إذن الفدرالية توفر نظاماً دستورياً قوياً تستند إليه التعددية، وتعزز الديمقراطية النيابية عبر توفير مواطنة مزدوجة في مجتمع جمهوري. إن النظام السياسي المستقبلى هو النظام الذي يستوعب التعددية المركبة عبر حكم فيدرالي رئاسي، يعتمد على التمثيل النسبى لاستيعاب المجموعات السياسية الصغيره ومنظمات المجتمع المدني للمشاركة في الحكم وفق دستور متفق عليه.
حقائق
1.    السودان بلد يتمتع بتعددية مركبة، ورغم تشابهه لدول عديدة بها ديمقراطيات مستقرة، ولكنه فشل في تحقيق ذلك الهدف.
2.     فشلت التجارب الديمقراطية التي مرت على السودان في خلق نظام سياسي مستقر للأسباب الآتية:
‌أ.           التنكر للتفويض الشعبي.
‌ب.       الاعتماد على الولاء الطائفى بدلاً من الفكر السياسي الذي يقود إلى المواقف المستلغة.
‌ج.        ضعف المؤسسات السياسة .
‌د.          لم تتكيف الأحزاب مع الوضع السياسي القائم فاتجهت إلى سياسة إقصاء الآخر.
‌ه.        غياب المنهج الوفاقي بين القوى السياسية وغياب البرنامج القومي المشترك، بل غياب منهج التسويات.
‌و.          استبدلت القوى السياسية مبدأ التداول السلمى للسُلطه بالقوة العسكرية.
3.     فشل التجارب العسكرية التي مرت على السودان في خلق استقرار سياسي، يرجع ذلك إلى الآتي:
‌أ.          انتقل المجتمع إلى مرحلة المُشاركة السياسية دون تطور مؤسسات سياسية فاعله.
‌ب.      القادة العسكريون غير مقتنعين بحُكم البلاد عسكرياً.
4.     من نتائج البحث أن هناك قناعة لنبذ الحُكم الإستبدادي واحتكار السلطة بالقوة.
5.    تاريخ تطور النظام السياسي مبنى على تحالفات بين تعددياته وأن التحالفات هي المحدد الأول في نجاح واستمرار الحكومات وفشلها.
6.    إن الاجتماع السياسي هو أحد مرتكزات أي نظام سياسي، وأن النظام الذي يعتمد على شخص واحد هو أقل الأنطمة السياسية استقراراً.
7.     تدنى الفاعلية والشرعية للمؤسسات السياسية الموجودة يقود دائماً إلى اللجوء إلى القوات المسلحة.
8.     غياب التراث الفكري للتعايش السلمي أدى إلى غياب الديمقراطية .
9.    أفرزت الثورة الفكرية خيارات سياسية بين بدائل متعددة ذات حيارات، مما زاد من الوعى السياسي للقواعد الشعبية بشكل يصعب على أي نظام سياسي تجاوزها.
10.     تعنت الحزب صاحب الأغلبية في توزيع المسؤوليات وعدم مقدرته على طرح رؤى تقرب بين الأحزاب الفاعلة حتى تقبل المشاركة في برنامجه. أفشل النظام البرلماني.
11.       عدم ملاءمة النظام البرلماني مع ظروف السودان.
12.       دخول المجتمع في العالم الرقمي مما فرض واقعاً وسلوكاً سياسياً جديداً يحتاج لأُطر تنظيمية وفق معطيات جديدة.
13.     فرضت العولمة والحراك الإقليمي الدولي واقعاً جديداً قوامه احترام حقوق الإنسان والحُريات والديمقراطية، مما يتطلب ثقافة الحوار بدلاً من الامتناع والتمترس .
14.       بروز نشاط دولي وإقليمي غير مرفوض من قِبل بعض القوى السياسية والتعامل معه.
15.     العولمة والتدخل الأجنبي أفرزت واقعاً جديداً دخل فيه العمل المسلح والتمرد مما أثر على المنظومة الاجتماعية والسياسية والثقافية، وأثر كذلك على التعددية المركبة في السودان.
ما المطلوب
·         اعتماد الحكم الفيدرالي كمنهج للحكم في السودان.
·         اعتماد النظام الرئاسى لخلق نوع من الرقاية والتوازن المتبادل.
·         التركيز على التمثيل النسبى في الانتخابات لتحقيق مُشاركة المجموعات السياسية الصغيرة.
·         عمل دستور دائم تشارك فيه كل المكونات السياسية السودانية، ويكون للولايات دستور خاص بها.
·     الاستفادة من تجارب الممالك الإسلامية في التعايش السلمي وقبول الآخر. والابتعاد عن سياسة الإقصاء والاعتراف بالآخر.
·         إدخال منظمات المجتمع المدني كمنظومة حديثة في إدارة البلاد.
·          استيعاب القوى الاجتماعية التي اكتسبت وعياً اجتماعياً جديداً نتيجة العولمة.


مقالات محكمة في
مستقبل النظــام الســياسي في الســودان
د. شمس الهدى إبراهيم إدريس
(25) النظام الملائم لصناعة الاستقرار
السودان بتعدديته العرقية، والثقافية، واللغوية، والدينية، والحزبية وتداخلاتها وتقاطعاتها، يحتاج لنظام سياسي يستوعب هذا الكم الهائل من التعدديات، بعد أن فشلت كل التجارب السابقة في خلق نظام سياسي أو توافق سياسي يقود للاستقرار. لذلك النظام السياسي القادم لابد له إن يحقق انسجاما وتحالفات بين تلك التعدديات، وبالتالي يكون هو النظام الملائم لحكم السودان.
من خلال ماسبق هل يستمر النظام البرلماني، أم يأتي النظام الرئاسي، هل تبقى الفدرالية كنموذج للحكم. لذلك لابد من اخضاع تلك النماذج للدراسة واسقاطها على المكونات السودانية مع الوضع في الاعتبار المستجدات التي طرأت على المجتمع، والحراك الداخلي الدولي والإقليمي .وأسباب فشل التجارب السياسية خلال الحقب المختلفة التي حكمت السودان، مع مراعاة التطور السياسي للنظام السياسي السوداني.
يقوم النظام البرلماني على سلطة تشريعية (برلمان) منتخب من قبل الشعب، وسلطة تنفيذية (رأس دولة ومجلس وزراء) ويقوم على مبدأ فصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية وتتكون السلطة التنفيذية في هذا النظام البرلماني من طرفين هما رئيس الدولة ومجلس الوزراء، ويلاحظ عدم مسئولية رئيس الدولة أمام البرلمان، أما مجلس الوزراء ويكون مسئولاً أمام البرلمان .فالسلطة التنفيذية لها حق دعوة البرلمان للانعقاد وحله، فيما يحق للبرلمان استجواب الوزراء، لذلك يقوم النظام البرلماني على التوازن بين السلطتين، وهو نظام مرن وغير جامد، ولكنه يحتاج للانضباط الحزبي لان الحزب الغالب في البرلمان هو الذي يشكل الحكومة وبالتالي الحكومة تتمتع بالأغلبية في البرلمان.
 الحكومة لابد أن تنال ثقة البرلمان، و رئيس الوزراء يعين من رأس الدولة لتشكيل الحكومة، وقد أثبتت التجارب الديمقراطية في السودان فشل هذا النظام. لأن التعددية الحزبية توسع من صلاحيات رأس الدولة في النظام البرلماني كما أن الحكومة لاتمارس السلطة إلا بعد موافقة البرلمان وسحب الثقة يترتب عليه سقوط الحكومة .
أدى النظام البرلماني إلى عدم استقرار الحكومة .
·     الاتجاهات الحزبية المعارضة والمتضاربة يؤدي لصعوبة الحصول على تأييد قوى للحكومة .
·     الحكومة خاضعة لتأثير جماعات مصالح مهمة وتكون الولاءات الحزبية الضيقة طافية على السطح .
·     نظام غير فعال يحتاج إلى وعي وإدراك سياسين عاليين إضافة إلى تعميق التجربة الحزبية .
أما النظام الرئاسي فيقوم على وجود رئيس دولة منتخب من قبل الشعب مباشرة أو غير مباشرة ويجمع بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة، وهذا يحقق المساواة بين السلطة التنفيذية والتشريعية .ويكون هنا جمع بين سلطة رئيس الحكومة ورئيس الدولة. ويقف الرئيس على قدم المساواة أمام البرلمان، ولا يحاسب الوزراء أمام البرلمان، ولايجوز سحب الثقة منهم، ولايملك رئيس الدولة الحق في دعوة البرلمان للانعقاد العادي أو فض دورته أوحله. فالتوازن بين السلطات الثلاث يقوم على مواد دستورية تخلق نوعا من الرقابة والتوازن المتبادل.
أما النظام الفدرالي فمن شأنه أن ييسر معالجة القضايا الحيوية التي لا يحسمها عدد الاصوات ولابد للمكون المحلي أن يكون له دور في حلها. فالنظام الفدرالي تكون فيه السلطات مقسمة دستوريا بين حكومة مركزية (فدرالية) أو (اتحادية) وحكومات ولايات أو أقاليم، ويكون كلا المستويين من الحكومة معتمدا على الآخر، ويتقاسمان السيادة في الدولة، أما ما يخص الولايات والأقاليم فهي تعتبر وحدات دستورية لكل منها نظامها الأساسي الذي يحدد سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويكون ذلك منصوصا عليه في دستور الدولة، بحيث لا يمكن تغييره بقرار أحادي من الحكومة المركزية.
هذا يضمن توزيع السلطات، ويجسد نظام الحكم تقسيما كبيرا في السلطات بين المركز والأقاليم أو الولايات، وأن يستقي النظام الفدرالي سلطاته من الدستور وهو السلطة العليا.
إذن الفدرالية توفر نظاماً دستورياً قوياً تستند إليه التعددية، وتعزز الديمقراطية النيابية عبر توفير مواطنة مزدوجة في مجتمع جمهوري.




مقالات محكة في
مستقبل النظــام الســياسي في الســودان
د. شمس الهدى إبراهيم إدريس
(24) النظام المستقبل للسودان
السودان بلد متعدد في أعراقه وقبائله وأديانه ولغاته وأحزابه السياسية، وبالتالي ثقافاته، وتاريخ وتطور نظامه السياسي مبني على تحالفات تلك التعدديات، وكانت السمة المشتركة في تجاربه البرلمانية وحكوماته العسكرية. كما أن التحالفات هي المحدد الأول في نجاح واستمرار الحكومات وفشله، بل كانت السبب الأساسي في سقوطها.
كما أثبتت التجارب الديمقراطية التي مر بها التطور السياسي في السودان أن الاجتماع السياسي هو أحد مرتكزات أي نظام سياسي، ويعتمد على قوة التنظيمات السياسية في المجتمع، وتستند تلك القوة وإلى النطاق الذي تشمله نشاطات التنظيمات، والتكييف مع التحديات التي تبرز ويتوقف التكييف على مرتكزين: مرتكز مدة بقاء التنظيم بمعنى أن له المقدرة على التكييف (خبرة) إذا كان منظماً، والمرتكز الثاني نشوء التنظيم – إذا احتفظ التنظيم بمجموعة من القادة لفترة طويلة كان تكييفه مع المستجدات أقل([1]).
أما النظام السياسي الذي يعتمد على شخص واحد فهو أقل الأنظمة السياسية استقراراً. لأن دخول فئات سياسية جديدة دون أن تكون متطابقة أو دون الإذعان للإجراءات السياسية المتبعة في الحزب، تصبح التنظيمات السياسية غير قادرة على مواجهة تأثير القوة الاجتماعية الصاعدة .وفقدان الثقة المتبادلة والولاء يشير إلى ضآلة حجم التنظيم وتفاعله .
الانقلابات العسكرية تتيح الفرصة للطبقة المتوسطة لولوج المعترك السياسي، مما ينشيء نخبة سياسية جديدة في فترة ما بعد الحكم العسكري([2]).
وهذا يتطلب مواعين جديدة ونظرة جديدة لاستيعاب هؤلاء وإلا كانت العملية السياسية معقدة وتحاول القوى التقليدية إبعاد الفئات الجديدة عن المسرح السياسي .
يعكس اللجوء إلى القوات المسلحة مدى تزايد حدة النزاع الاجتماعي بين عدد من الفئات والجماعات، بالإضافة إلى تدني الفاعلية والشرعية للمؤسسات السياسية الموجودة، وغالباً ما يكون علاقة على نهاية سلسلة من أعمال العنف والعنف المضاد في المجال السياسي ليكون الوسيلة الممكنة لإعادة السلطة السياسية.
كما أن غياب التراث الفكري للتعايش السلمي، بالإضافة للفقر الفكري أدى إلى غياب الديمقراطية لدولة الاستقلال منذ يومها الأول، وسبب ذلك الولاء الطائفي الحاد للمجتمع السوداني. فكانت النخب السياسية التي ناضلت وحققت الاستقلال غير مستعدة لتداول السلطة، فاتجهت لسياسة الانقلابات العسكرية عند الخلاف، ولم تؤرخ لسابقة سياسية لحل الخلاف داخل الأحزاب الاستقلالية التي نشأت على الزعامة الدينية وليس الكفاءات السياسية.
يمكن طرح رؤية لمستقبل النظام السياسي في السودان من خلال ثلاثة محاور وفق المطالب الآتية:
المستجدات على الساحة السياسية
يواجه عالم اليوم بمطالب الداخل وضغوط الخارج في مجال الديمقراطية، حيث تطالب النخب والجماهير بالمشاركة السياسية معاً بحق المشاركة السياسية، وتأتي تلك المطالب في ظل شعارات عالمية قوامه الديمقراطية والتعددية واحترام حقوف الانسان. وظهور منظمات المجتمع المدني كمفردة جديدة في النظام السياسي .
إذن هنالك ثورة فكرية ترتكز على تعدد الخيارات بين بدائل متعددة ذات خيارات سياسية مفتوحة، مما يعني أن هنالك مستجدات سياسية واجتماعية وثقافية ووعي سياسي للقواعد الشعبية لايمكن لأي نظام سياسي أن يتجاوزها. وقد شهد السودان متغيرات متعددة ومختلفة في مجالات متنوعة، واجتماعياً ضعفت الطائفية الدينية ونما الإحساس القبلي والإقليمي وأصبح الانتماء الجزئي يفوق الانتماء الكلي، وذلك نتيجة لبسط التعليم في كثير من قطاعات المجتمع([3]).
وأدى هذا الوضع إلى تطلع كثير من عناصر الأحزاب للمشاركة في قيادة الحزب وصنع القرار، الأمر الذي قاد إلى انشقاقات داخل الأحزاب وبروز أجنحة للحزب، كما ظهرت أحزاب سياسية جديدة ودخلت القبيلة كأحد مكوناتها، فأصبحت بعض الأحزاب رهينة للقبلية، بل تطور الأمر لحمل السلاح، فطغى نشاط القبلية في الحزب على النشاط السياسي للحزب.وأمتدت ظاهرة التمرد المسلح، ومرد ذلك أن القبيلة كان دورها تحالفاً بين القبائل لتكوين مملكة أو انتماء واحد، ولكن أصبح الآن دورالقبيلة سياسياً، وبالتالي ارتفاع الخصومة السياسية وعدم الاستعداد للتعايش([4]).
من المستجدات ذات التأثير العالي على الفهم والفكر السياسي، دخول الثقافة السودانية العصر الرقمي الذي فرض سلوكاً سياسياً جديداً يحتاج إلى أطر تنظيمية وفق معطيات جديدة مرتكزة على مبادي التعددية الثقافية بديلاً للرؤية الأحادية أو الفكر الوحيد، مع ضرورة التعرف على أفكار الآخرين ومناقشتها بدلاً من تجاهلها أو منعها ومصادرتها والعداء مع أصحابها إلى حد الاقتتال الذي سببه غياب ثقافة الحوار.
برز النشاط الأجنبي كأكبر مستجدات على الساحة السياسية رسمياً وشعبياً، وهونشاط دولي وإقليمي غير مرفوض التعامل معه من بعض القوى السياسية، بذلك يحتاج الأمر السياسي إلى تكوين تحالف سياسي راسخ يساعد ترسيخ نظام سياسي وفق دستور يجد كل كيان سياسي نفسه داخله ولايستثني أحداً ويركز على التعاون السياسي على القضايا العامة، والانقياد إلى مبدأ منهج التسويات في حل الخلافات الخاصة.
هذه هي البيئة السياسية الجديدة التي يحتاج إليها السودان لينشأ نظام سياسي مستقر ومستدام، يتحقق من خلاله تجاوز كل ما من شأنه أن يعوق مسيرته الديمقراطية والتنظيمية. هذا الأمر يعكس أهمية التنشئة السياسية التي ترتكز على أن يفهم الفرد أو يحس بما يدور من حوله، حتى يتعامل معها بحكمة ومسئولية ويأحذ حقوقة ولايتغول على حقوق الآخرين، بالإضافة للتفاعل بإيجابية مع الآخرين والتعايش والتعاون معهم.
رؤية جديدة ذات أبعاد ودلالات
المستجدات التي طرأت على المجتمع السوداني من عولمة وتمرد مسلح وتدخل أجنبي أثر في المنظومة الاجتماعية والسياسية والثقافية لمكونات المجتمع، مما ضاعف المتغيرات، وبالتالي على التعددية المركبة في السودان.
مما صعب من فرص النجاح للنظام السياسي، ولذلك يحتاج الأمر إلى تحالفات سياسية إيجابية وتقنيات دستورية خاصة. وتعددية مركبة (اجتماعية، وعرقية، وطائفية، وسياسية، وإقليمية)، يصعب معها تناول القضايا المختلفة بقاعدة الأكثرية والأقلية، ولكنها تعالج بواسطة المنهج الوفاقي بين الأطراف المختلفة([5]).
هذا يحتاج لوعي ديمقراطي كاف، والاهتمام بالقيم التي تحقق التعايش السلمي بين الشركاء في العملية الديمقراطية، للنهوض بالنظام السياسي كجزء مهم في التعددية بمعناها الحديث، لان المجتمع التعددي وهو المجتمع الذي تكون الحكومة فيه ليست سوى منظمة واحدة تتفاعل مع منظمات أخرى، مثل الأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية([6]).
إن التعدديات في السودان تتخللها مفردات ذات أحجام وأوزان سياسية مختلفة، مما يتطلب الأمر بعض المعالجات الخاصة لكي تستوعبها، حتي لا تكون ذات أثر سلبي حال تجاوزها، وهذا الأمر يقود إلى أهمية التمثيل النسبي لتلك الأحجام والأوزان، حتى لا تحرم الأقلية من المشاركة السياسية والمساهمة في حل القضايا التي تعوق تطور النظام السياسي وفاعليته. وبالتالي يضمن تحالفات سياسية يكون لها المردود الإيجابي في التعددية الحزبية الفاعلة لتأسيس نظام ديمقراطي رشيد، والديمقراطية المستدامة وتلقائيأ النظام السياسي المستقر.
هذا الشكل يتطلب استعداد المكونات السياسية ومنظمات المجتمع المدني أن تتعايش فيما بينها باتباع سياسة القبول بالآخر، وأن تتفاهم وتتواثق على حل تقاطعاتها بالطرق السلمية والحوار ونبذ العنف والعنف المضاد، ويأتي ذلك بقبول الحلول الوسط والتنازل من هنا وهناك حتى يحدث التوافق السياسي الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى أن تكون التعددية المركبة في السودان أداة لنظام سياسي مستقر ومستدام.



([1]) د. معتصم عبدالقادر الحسن مصدر سبق ذكره – ص 24.
([2]) صموئيل هانتنغتون النظام السياسي  لمجتمعات متغيرة مصدر سبق ذكره – ص 216.
([3]) أ.د. حسن على الساعوري –كيف يحكم السودان مصدر سبق ذكره – ص 205.
([4]) المصدر نفسه – ص 206.
([5]) ذات المصدر – ص 220.
([6]) السيد يسين – الديمقراطية وحوار الثقافات تحليل الازمة وتفكيك للخطاب- مكتبة القراءة للجميع القاهرة 2007م – ص 31.