السبت، 2 نوفمبر 2019


مقالات محكمة في
مستقبل النظــام الســياسي في الســودان
د. شمس الهدى إبراهيم إدريس
 (17) التعدديـــــــــــــة الحزبيــــــــــة
نظام التعددية الحزبية نظام يمارس فيه أكثر من حزبين دوراً في الحياة السياسية بخلاف الأنظمة الثنائية، فالتعددية الحزبية تمتاز بعدم وجود حزب واحد قادر على تشكيل الحكومة بمفردة، فالحكومة تشكل بتحالف بين أحزاب عديدة.
يأتي التعدد على أساس الإعتراف بحرية تكوين الأحزاب السياسية ويجب ان تقوم جميع الأحزاب السياسية على اساس قبول مبدي التعايش السلمي بينهما ولنجاح نظام التعدد الحزبي، يجب أن يفهم المواطن حقيقة وأهدافة ومراميه. فالقطاع الحزبي ليس الا وسيلة لخدمة المواطن والمواطنين .
ظل النظام التعددي راسخاً في السودان إذا استثنينا الانتخابات الأولى في السودان والتي فاز بأغلبية مقاعدها البرلمانية الحزب الاتحادي الديمقراطي. ولم يستطع أي حزب تحقيق ذلك طوال فترة الديمقراطيات الثلاث التي مرت على السودان، والأحزاب وإن اختلفت برامجها وأهدافها وأساليبها تعمل جميعاً على تحقيق المصلحة العامة في الدولة بالطريقة التي تراها أفضل([1]).
والخلاف الحزبي يجب أن يظل في اطار ممارسة حرية الرأي الفكري فلا يؤدي إلى المخاصمات أو الصراع بين الأنصار والمؤيدين .
نشأة التعددية الحزبية
نشأت التعددية الحزبية في السودان منذ قيام أول انتخابات للحركة الوطنية السودانية عام 1953، وترسخت تدريجياً مع تطور العملية الانتخابية خلال فترات متقطعة فصلت بينها حكومات عسكرية، حيث شهد السودان خمس دورات شكلت التعدد الحزبي .بدأت هذه التعددية بخمسة أحزاب سياسية حتى بلغت خمسة عشر حزباً سياسياً في عام 1986م([2]).
لقد تباينت أسباب ودواعي نشأة الأحزاب في السودان،وكانت أهم آلية من آليات المشاركة السياسية، لذلك تأثرت بالتنشئة السياسية للمجتمع السوداني الذي كان مجتمعاً يحكمه الولاء الديني للطريقة الصوفية أوالجماعة الدينية، التي استغلها الحكم الثاني لكسب ولائها واستعطافها. فزرعت الفرقة بين المكونات السياسية للمجتمع السوداني (طائفة الختمية والأنصار والمثقفين)، وانعكس الصراع الإنجليزي المصري على المسيرة السودانية .
لقد أفرز هذا الوضع حركة مقاومة سودانية مكونة من المتعلمين (الأفندية) في مواجهة زعماء القبائل والشيوخ الذين اتهمهم المتعلمون بالولاء للإنجليز، فنشأت الأحزاب على هذه الخلفية التاريخية. وفي عام 1920م تأسست جمعية الاتحاد السوداني كأول تنظيم سياسي في تاريخ السودان، حيث ظهرت بوادر التنظيم السياسي عند تكوين نادي خريجي المدارس عام 1918م وكانت تحت مراقبة الإدارة البريطانية والتي عينت له رئيساً من البريطانيين، وعندما تطور الوعي كان ميلاد جمعية الاتحاد السوداني التي انقسمت إلى شقين شق أول كان على أساس عرقي وشق آخر كان على أساس طائفي([3]).
تأسست الأحزاب السودانية على أساس طائفي، ولكن يربطها الولاء الديني بالشيخ أو الزعيم، وتمازجت تيارات عديدة داخل الحزب السياسي الواحد فهنالك أوصاف بأن هذه الأحزاب ليبرالية ماركسية) أو من المنطلق الفكري الإسلامي (المذاهب السياسية الإسلامية) أو في الفكر العربي الحديث (القومية) أو الواقع الاجتماعي السوداني (القبلية، الطائفة)([4]).


وقد نشأت الأحزاب على مجموعتين:
أولاً: الأحزاب الاتحادية وهي:
حزب الأشقاء: كان الحزب من البداية عبارة عن جماعة من الشباب جمعتهم ظروف الدراسة، وقد التقت تلك الجماعة بأبرز أعضاء نادي الخريجين، وتبلور حزب الأشقاء من هذه الجماعة عام 1943م([5]).أما زعامة الحزب الروحية فتمثلت في السيد على الميرغني.
حزب وادي النيل: تأسس عام 1945م وكان يؤمن بالوحدة الشاملة بين مصر والسودان وقيام دولة واحدة منهما، واندمج الحزب عام 1953م في الأحزاب الاتحادية في الحزب الوطني الاتحادي([6]).
 حزب الاتحاديين: تكون هذا الحزب في أكتوبر 1944م، ونشأ الحزب كفكرة هدفها تكوين جماعة للعمل ببرنامج يدعو لأهداف وطنية، وكان محور مبادئه قيام حكومة سودانية ديمقراطية حرة في اتحاد مع مصر، وقد اندمج في الاتحاديين في الحزب الوطني الاتحادي عام 1953م([7]).
حزب الأحرار الاتحاديين: نشأ حزب الأحرار عام 1944م وهو يضم جماعة تعمل على أن تقوم العلاقة في المستقبل بين مصر والسودان على أساس اتحاد حر، وأعضاء هذا الحزب أقل عدداً من حزب الاتحاديين، ورغم قلتهم فقد انشقوا في سنة 1954م عندما أيدت أكثريتهم قرارات مؤتمر الخريجين العام التي أصدرها في أبريل سنة 1945م والتي على رأسها (قيام حكومة سودانية ديمقراطية في اتحاد مع مصر تحت التاج المصري)، فانشق حزب الأحرار إلى أحرار اتحاديين وأحرار انفصاليين، أما حزب الأحرار الانفصاليين فقد تلاشوا، أما حزب الأحرار الاتحاديين فهم فيدراليون، وقد ظلوا رغم قلة عددهم حتى سنة 1952م واندمجوا فيما بعد في الحزب الوطني الاتحادي في عام 1953م([8]).
حزب الجبهة الوطنية: انشأه جماعة من المنشقين عن الأشقاء، وكان هدفه إقامة اتحاد مع مصر، وتعتبر المجموعة المنشأة لهذا الحزب من كبار رجال طائفة الختمية من الموظفين والمتقاعدين بالمعاش، ثم اندمج في الحزب الوطني الاتحادي.
تجمعت رابطة طائفة الأحزاب الاتحادية.التي تدعو إلى الاتحاد مع مصر وتحقيق مطالب الشعبين في الحرية والاستقلال، ورأت أن تتوحد هذه الأحزاب في حزب واحد ما دام الهدف مشتركاً، واختير لهذا الحزب الجديد اسم (الوطني الاتحادي).
الأحزاب الاستقلالية:
حزب القوميين: ظهر في أكتوبر عام 1944م أي قبل ظهور حزب الأمة، وقام على أساس (جماعة الفجر) التي عرفت بمجموعة السودان الجديد أو الهاشماب وبرنامجه الأساسي يتحدد في ضرورة إلغاء اتفاقية 1899م وأن يوضع السودان تحت الانتداب من حكومتي مصر وإنجلترا لكي يتدرب السودانيون على الحكم، وبعد فترة الانتداب يتم اتحاد مع مصر، وبعد قيام حزب الأمة صار حزب القوميين مؤيداً وتابعاً له، وقد تلاشى الحزب تدريجياً وسط حزب الأمة ومن زعمائه محمد أحمد المحجوب.
الحزب الجمهوري الاشتراكي: أنشأ الإنجليز هذا الحزب ليقاوم حزب الأمة، ولكن أغلبية أعضاء هذا الحزب الجديد لم يمكثوا طويلاً في عضويته، حيث عاد الكثير منهم إلى حزب الأمة، كما أن الحزب كان يدعو إلى قيام جمهورية اشتراكية مستقلة، وكان معظم أعضائه من زعماء القبائل وكان الحزب بمثابة اتحاد يدافع عن مصالحهم حسب زعم المستر (هوكسيرت) أحد كبار الإداريين الإنجليز في السودان، وقد استمر هذا الحزب في العمل حتى إعلان استقلال السودان، وحصل في الانتخابات العامة البرلمانية سنة 1953م على ثلاثة مقاعد في مجلس النواب لكنه اختفى بعد إعلان الاستقلال وعادت قيادته إلى حزب الأمة([9]).
حزب الأمة: أنشئ حزب الأمة في عام 1945م وشعاره (السودان للسودانيين) تحت زعامة السيد عبدالرحمن المهدي وهو المؤسس الحقيقي للحزب، وحزب الأمة هو أكبر الأحزاب الاستقلالية في مقابل الأحزاب الاتحادية آنذاك، وتجمع الأحزاب الاستقلالية فكرة واحدة هي عدم رغبتها في إقامة أي ارتباط سياسي بين مصر والسودان، وقد استند حزب الأمة إلى طائفة الأنصار واقتصرت معظم عضويته عليها إلا أنه تميز بظاهرة أخرى هي قصر المناصب القيادية فيه على أفراد بيت المهدي.
بجانب الأحزاب الكبيرة والجماهيرية والتي كانت تعول كثيراً على جماهير طائفتي (الأنصار والختمية في معظم مراحلها السياسية، فقد برزت أحزاب أخرى كان أكثرها وجوداً حزبين قاما على أسس عقائدية، وهما الحزب الشيوعي (الجبهة المعادية للاستعمار) والذي تكون في عام 1946م، والحركة الاسلامية (الإخوان المسلمون)، و تكون في العام عام 1949م.

تطور وأشكال التعددية الحزبية:
مرت التعددية الحزبية بمراحل عديدة منذ نشأتها في أول انتخابات برلمانية في السودان عام 1953م، حيث شاركت خمسة أحزاب سياسية، وهي الوطني الإتحادي، وحزب الأمة، وكتلة الجنوب، والحزب الجمهوري الإشتراكي والجبهة المعادية للاستعمار. وفاز الوطني الإتحادي بأغلبية ثلثي المقاعد النيابية، وكان حزب أغلبية ومهيمن في ظل تعددية حزبية، ولكن الحزب فقد الأغلبية نتيجة لانشقاق حزب الشعب الديمقراطي بزعامة السيد إسماعيل الأزهري([10]).
كما شارك في انتخابات 1958م عدد ستة أحزاب، عقب انشقاق حزب الشعب الديمقراطي عن حزب الوطني الإتحادي، ولم يحصل أي حزب على أغلبية تمكنة من تكوين حكومة بمفرده إلا عبر تحالف مع الآخرين، وكانت نتيجة الانتخابات متقاربة بين الأحزاب المتنافسة، وهي الأمة والوطن الاتحادي وكتلة الجنوب وحزب الشعب الديمقراطي. وظهرت هنا تعددية غير مهيمنة.وبدأ حكم الائتلاف بين أكثر من حزب سياسي([11]).
شهدت الانتخابات البرلمانية الثالثة في العام 1965عقب أكتوبر،ظهور أحزاب جديدة واختفاء أخرى في الساحة السياسية السودانية،وكانت الأحزاب التي دخلت مضمار التنافس الانتخابي هي الوطني الإتحادي، والأمة، والشعب الديمقراطي، وجبهة الميثاق الاسلامي، والحزب الشيوعي ومؤتمر البجا.وجاءت بتعددية حزبية قوية بحيث لا يستطيع حزب تكوين حكومة إلا عبر ائتلاف([12]).
أما انتخابات 1968م وقد أبرزت تطوراً آخر في التعددية الحزبية، حيث اندمجت أحزاب وانشقت أخرى حتى بلغت في تلك الانتخايات عدد تسعة أحزاب شاركت في الانتخابات، وهي الاتحاد الديمقراطي، وحزب الامة جناح الامام والامة جناح الصادق، وجبهة الميثاق، والحزب الشيوعي، حزب سانو، وجبهة الجنوب، مؤتمر البجا، واتحاد جبال النوبة، ولم يحقق أي حزب أغلبية تؤهله لتشكيل حكومة بمفرده أو حتى حزبين مما قاد إلى ائتلاف ثلاث أحزاب لتشكيل حكومة([13]).
أما انتخابات الديمقراطية الثالثة فقد اختلفت عن كل الانتخابات السابقة بعد انشطارات مجموعات عن أحزابها، حيث كونت أحزاب جديدة أضافت للتعددية بعداً آخر وشارك في تلك الانتخابات عدد خمسة عشر حزباً، ولم يحقق أي حزب أو حزبين الأغلبية البرلمانية التي تأهله لتكوين حكومة ولو ائتلافية، ولكن ظهر تقدم أحزاب أتت من الخلف، ونافست الأحزاب الثابتة في التشكيلة الحزبية التي شاركت في كل الانتخابات السابقة.
من أشكال التعددية الحزبية التعددية التامة التي تتحقق عندما لايفوز أي حزب بالاغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة مع حصول كل حزب على عدد متقارب من المقاعد، أما الصورة الثانية للتعددية الحزبية فهي التي تسمي بالتعددية بحزب مهيمن، ومن مؤشرات الحزب المهيمن أن المقاعد التي يحصل عليها تتراوح بين الثلاثين والأربعين في المائة، كما أن من مظاهره أنه يقضي بتحالف مع الأحزاب الأخرى مدة طويلة في الحكم والفرق بين الحزب الواحد والحزب المهيمن، فالحزب الواحد ينشأ في نظام لايسمح بانشاء الأحزاب، أما الحزب المهيمن فينشأ في ظل تعددية حزبية ولكنه يحصل على غالبية كاسحة في البرلمان.
عمومـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً
يتوقف نجاح أو فشل التعدد الحزبي على مدى تماسك النظام الحزبي، بالإضافة إلى قوة الأحزاب و تماسك وتكامل النظام الحزبي المؤسس على أنماط التنافس السياسي التي تحددها درجة الخصومة السياسية بين الأحزاب. فكلما كانت درجة الخصومة السياسية متدنية تماسك وتكامل النظام التعددي([14]).
فقوة الحزب تحددها حجم التأييد الشعبي للحزب عبر آلية الانتخابات وفق معيارين، الأول هو منهج عدد المقاعد البرلمانية التي حصل عليها، والثاني شعبية الحزب، وتظهر هذه من خلال عدد الاصوات التي وقفت إلى جانبه.ولكن معيار عدد المقاعد البرلمانية أضعفها لأن العدد غير كاف لتحديد قوة الحزب وفاعليته، فإذا نظرنا لانتخابات 1986 نجد الأحزاب الأولى الفاعلة في النظام التعددي السوداني هي حزب الأمة، والاتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلامية القومية، وقد أحرزت تلك الأحزاب على 100، و63 و51 مقعدأ على التوالى([15]).
 حيث حصل حزب الأمة على تلك المقاعد من غرب السودان والنيل الأبيض، ولم يكن له وجود يذكر في مناطق السودان الأخرى، أما الاتحادي الديمقراطي فحصل على تلك المقاعد في الشمالية وشرق السودان، ولم يكن له وجود يذكر في باقي أنحاء السودان، ولكن كانت المقاعد التي تمثل كل السودان هي دوائر الخريجين التي فاز بها حزب الجبهة الاسلامية، وهذا يقود إلى أن حزبي الأمة والاتحادي قد فازا في نفوذهما التقليدي، ومناطق الولاء الطائفي، وهذا بدوره يؤكد عدم انتشارهما القومي، وبالتالي يقدح في عدم قوتهما السياسية والتنظيمية، ويؤشر إلى قوة حزب الجبهة التنظيمية والسياسية، وهذا ما أكدته النسب التراكمية لتلك الأحزاب.
وهنا نقطة جديرة بالملاحظة إذا تمت مقارنة بين انتخابات 1986 بالانتخابات التي سبقتها في 1968،نجد أن الحزبين الكبيرين (الأمة والاتحادي) قد تراجعا مع تقدم الجبهة الاسلامية، ويرجع ذلك لمستوى التكيف مع البيئة الاجتماعية وتطوراتها، فكلما كان التعاطي بفاعلية مع التطورات البيئية وتحدياتها، كان الحزب فاعلاً وقوياً، والعكس كلما زاد تصلبه وعدم تفاعله مع التطورات البيئية وتحدياتها كان حزباً ضعيفاً وغير منتشر وقلت قوميته. هذا يؤثر في فاعلية التعدد الحزبي ومدى نجاحه أو فشله.
أما تمسك النظام الحزبي، فيؤثر تأثيراً مباشراً على نجاح أو فشل التعدد الحزبي. والتماسك يتوقف على كيفية الصراع السياسي بين الأحزاب السياسية. وهناك أنواع مختلفة من أنماط الصراع السياسي، ولكل نمط إيجابياته أو سلبياته على النظام التعددي. وأنماط الصراع السياسي تحددها عوامل أربعة هي: الخطاب السياسي، وأسلوب النشاط العام، ووطبيعة السند الشعبي، وطبيعة ودرجة الاختلاف بين الأحزاب السياسية([16]).
إن الاحزاب والتنظيمات السياسية في السودان اسمتدت أفكارها السياسية من مصادر متعددة كالليبرالية والماركسية والمذاهب الإسلامية أو القومية أو من خلال الواقع الاجتماعي كالقبلية والطائفية .
لذلك نجد أن الفكر السياسي للأحزاب السودانية يأخذ نمط الموقف المطلق رفضاً وقبولاً دون ترك مساحات للتقييم للخطأ أو الصواب، وبالتالي افتقد الفكر الصواب وترك الخطأ في الظواهر السياسية، ويرجع ذلك إلى أن السياسة السودانية تتميز بعدم الواقعية ولاتتبع الأسلوب العلمي في التفكير والحركة ولاتعتمد على التخطيط والاستراتيجية، بل تُبني على المواقف اللحظية ورد الفعل مما يؤدي إلى الانحراف عن الخط الاستراتيجي للحزب، ويعتمد المرحلية ومواجهة الظروف، وبالتالي يخرج الفكر السياسي عن تبادلات الخطة الاستراتيجية والتكتيك، وتتعارض تلك المكونات بدلاً من التفاعل فيما بينها، مما يقود إلى الصراع السياسي بدلاً التوافق السياسي الذي يميز التعددية الحزبية ونجاحها([17]).
كما يقود الفكر إلى نوع الخطاب السياسي الذي يساعد على تماسك النظام السياسي الذي ُيعبر عن نجاح التعدد الحزبي. والمقصود بنوع الخطاب السياسي هو القضايا التي تحاول بها الأحزاب تعبئة الجماهير لتكون سنداً لها. أي القضايا التي يمكن عن طريقها أن تستقطب الجماهير للتصويت لهذا الحزب أو ذاك وهي الكيفية التي بواسطتها تجد الأحزاب السند الشعبي.
يختلف الخطاب السياسي من حزب إلى آخر، فهناك خطاب سياسي يقوم على العواطف و يضرب على الأوتار الحساسة المتعلقة بإحساس الناس وأشواقهم لتحريك العاطفة، وخطاب يقوم على الأوصاف البليغة لتجسيد مشاكل الناس. وخطاب يركز تركيزاً على عظم وجسامة المعاناة الشعبية، وهي خطابات ثورية هدفت لتحريك الأفراد والجماعات خلفه من غير أن يعير اهتماماً لخيارات الحلول.
 في مقابل ذلك هنالك من يخاطب العقول ولا يلجأ إلى دغدغة العواطف والأشواق، وإنما يركز على الحجج المنطقية فالجماهير عنده لاتحتاج إلى أحد يصف ما تعانيه الجماهير عند هذا الفريق تكتفي فقط بمن يعترف لها بوجود المشاكل أو المعاناة ومن ثم فإن الأهم عندها السياسات المؤدية إلى الحلول فالخطاب في هذه الحالة يعتمد أساساً على قوة الحجة والمنطق بأن برنامجك السياسي هو البرنامج الأنسب لحل المشاكل وبأنك مؤهل تماماً لتحمل المسئولية من حيث الاعتماد على كوادر سياسية ذات علم وخبره تمكنها من تطبيق البرنامج السياسي وإنجازه في الوقت المطلوب .
هناك خطاب سياسي ينطلق من العقائدية والمذهبية، ويريد أن يقنع الناخبين بأن في مذهبه السياسي الحل لكل داء، كما نجد خطاباً سياسياً يتكيف مع الظروف الزمانية والمكانية ومن هنا فإن خطابه السياسي يعتمد على التجارب السابقة والمعاصرة فيقدم برنامجاً سياسياً فيه الواقعية التي تجعله جاذباً للأفراد ويكون هدفه الوصول إلى السلطة بواقعية الذي يعلم أن السند الجماهيري قد يكون متقلباً حسب الأحوال الظرفية([18]).
كما يؤثر الأسلوب الذي يتخذه الحزب أثناء النشاط السياسي وخاصة في علاقة الأحزاب مع بعضها الآخرعلى نجاح وفشل التعددية الحزبية.لأن الأسلوب الذي يتبعه الحزب يحدد مدى قبوله للتعايش السلمي مع الآخرين، و الحرص على تجاوز الاختلافات الحزبية الذي يقود إلى ذهنية التعايش ومن ثم التعاون بينما، والعكس يؤدي إلى نفسية الفرقة والشتات ومن ثم النزوع إلى استمرارية الكيد السياسي وعدم الاستعداد للتعايش. وإن تلك المحددات من أعمدة التماسك الحزبي، و قد يقود إلى تحالفات لطرفين أو تحالفات مفتوحة كأساس لنجاح التعددية الحزبية الذي هو أساس نجاح أي تعددية سياسية([19]).
إجمالاً: إن موقع السودان الوسيط، وخصوبة أراضيه ووفرة مياهه، وتسامح أهله، قد جعله مركز جذب لكثير من المهاجرين من الشمال والغرب والشرق، وكانت نتيجة الهجرات المتتالية على أراضيه التزاوج بين المهاجرين والسكان المحليين، ووجود اختلافات في الجوانب العرقية والدينية والثقافية والحزبية حتى غدت التعددية هي أهم ما يميز السودان، مع ملاحظة أن هنالك تداخلاً واضحاً في هذه الجوانب فهنالك جماعات تتوحد في الأصل العرقي ولكنها تختلف في الدين، وأخرى تتوحد في الجوانب الدينية وتختلف في الأصل العرقي أو اللغة التي تتحدث بها، كما أن الحزب الواحد تتعدد فيه اللغات والأديان والقبائل وغيرها من التنوع العرقي والثقافي.
إن الأوضاع المعقدة في السودان تحتاج إلى سياسة رشيدة تسمح لكل هذه الاختلافات بالتعبير عن نفسها، ولابد للدولة أن تقوم بالتوفيق بين مظاهر هذه التعددية من خلال السياسات التي تصدر عنها.
إن التعددية العرقية والثقافية والدينية تعتبر خاصية عامة تميز كل مناطق السودان دون استثناء، ومع ذلك فإن هذه الجماعات لم تكن تعبر في السابق عن اختلافاتها عن طريق القوة بصورةً واسعة باستثناء منطقة الجنوب التي عرفت التمرد وحمل السلاح منذ الخمسينيات.
خلاصة القول: إن السودان بلد متعدد الأعراق والقبائل واللغات والأديان والثقافات، كما أنه متعدد الطوائف والأحزاب السياسية، ورغم ذلك في فترات ليس بالقليلة، أنشأ نظماً سياسية مستقرة إبان الممالك الإسلامية وفترة الثورة المهدية. وكانت تجربة التعددية السياسية في أول انتخابات برلمانية سودانية في عام 1953م نموذجاً لتعددية سياسية كان يمكن أن تكون منهجاً للنظام السياسي السوداني، تمزج فيه ما بين التوافق الاجتماعي الذي تحقق في فترات الممالك الاسلامية الدولة المهدية، وكان أساسه الدين واللغة والقبيلة والعرق، وما بين ذلك الاجتماع السياسي في تلك الفترة الذي كان أساسة أحزاب اتفقت على وحدة الهدف والمصير.
هذا يقود إلى إمكانية رسم مستقبل النظام السياسي السوداني من خلال تلك التعددية بكل أشكالها، وسد الثغرات حتى يتسنى للسودان الاستقرار السياسي في ظل الحراك الإقليمي والدولي، الذي يرتكز على الأقوى سياسياً واجتماعياً، مع التركيز على حرية الإنسان وكرامته والتي هي مبادي من مبادي الشعب المجتمع السوداني الذي يمثل التدين فيه نسبة عالية، بل يكون متفرداً في ذلك.



([1]) الدكتور ماجد راغب الحلو- القانون الدستوري – دار المطبوعات الجامعية – الإسكندرية 1997م – ص115.

([2]) أ. د. حسن على الساعوري – كيف يحكم السودان – مصدر سبق ذكره  - ص 41.

([3]) عثمان بك، مذكرات التاريخ، الخرطوم أمدرمان  2009م-  ص19.

([4]) عبد القادر الغرين، المقال في تاريخ السودان والعالم الغربي الحديث- الخرطوم- المروة للطباعة والنشر 1999م - ص56.

([5]) الحزب الاتحادي الديمقراطي، يسألونك عن الوحدة مع مصر، إصدار لجنة التعريف والترجمة، 2009م- الطبعة الأولى - ص11.

([6]) المصدر نفسه - ص12.

([7]) زكي البحيري، الحركة الديمقراطية 1943 – 1985م، الخرطوم، دار نهضة الشرق، 1996م- ص180.

([8]) المصدر نفسه -ص187.                           

([9]) ابراهيم الحاج موسى، التجربة الديمقراطية وتطور الحكم في السودان، بيروت، دار الجيل، دار المأمون الخرطوم- ص360.

([10]) أ.د. حسن على الساعوري – كيف يحكم السودان – مصدر سبق ذكره  – ص 39.

(([11] المصدر نفسه – ص 40.

([12]) المصدر نفسه – ص 40.

([13]) المصدر نفسه – ص 40.

([14]) أ.د. حسن على الساعوري مصدر سبق ذكره – ص 50.

([15]) المصدر نفسه – ص 43.

([16]) المصدر نفسه – ص 45.

([17]) د. صبري محمد خليل ـ الازمة السياسية السودانية .. اشكال الفكر السياسي السوداني .

[18] أ. د. حسن على الساعوري مصدر سبق ذكره – ص 45-46.


[19] المصدر نفسه – ص 49.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق