الجمعة، 24 أبريل 2020


تأثيرات التباعد الاجتماعي في السودان
والبدائل الممكنة
مقدمة
طُبقت مستويات مختلفة من التباعد الاجتماعي في أنحاء العالم، بما في ذلك في الصين، وأوروبا، وجانب كبير من الولايات المتحدة. وتقبَّل مئات الملايين من الناس حدوث اختلالات كبيرة في حياتهم اليومية، كما تحملوا خسائر اقتصادية كبيرة؛ استنادا إلى المنطق القائل بأن إبطاء انتشار فيروس كورونا يمكن أن يحول دون إنهاك أنظمة الرعاية الصحية.كما يُمكن أن يتسبب التباعد الاجتماعي، والسياسات المفروضة في الدول الفغيرة لمكافحة فيروس كورونا المستجد في تأثيرات ضارة في الدول ذات الدخول المنخفضة؛ إذ من المحتمل أن تعرِّض حياة الناس للخطر أكثر مما تنقذهم.
تأثير الإغلاق الكامل في الدول الغنية والفقيرة
توضح النماذج الوبائية أن تكلفة عدم التدخل في البلدان الغنية ستتمثل في مئات الآلاف إلى ملايين القتلى، وهي نتيجة أسوأ بكثير من أعمق ركود اقتصادي يمكن تخيله. وبعبارة أخرى، فإن التدخلات التي تتضمن تطبيق التباعد الاجتماعي وفرض إجراءات شديدة الصرامة، حتى ولو واكبتها تكاليف اقتصادية، لها ما يبررها إلى حد بعيد في المجتمعات ذات الدخول المرتفعة. لكن منطق هذه الاستجابة مبني على خصائص المجتمعات الصناعية الغنية نسبيًّا، حيث برزت هذه السياسة. غير أن البلدان ذات الدخل المنخفض إلى المتوسط​​، ومنها السودان، ذات طبيعة مختلفة، وتثير أسئلة مختلفة، بمعنى: هل مزايا تطبيق الإغلاق الكامل على مستوى الدولة يفوق أيضًا تكاليف الإجراء ذاتها ؟،نرى عدة أسباب بما في ذلك التركيبة السكنية وتوزيعها، ومصدر رزق الناس، والقدرة المؤسسية – وهذه الجوانب مختلفة في السودان عن الدول التي طبقت ذات السيناريو والمنهج كالولايات المتحدة أو أوروبا. مما يؤشر إلى بالإمكان أن يؤدي فرض عمليات حظر صارمة في السودان إلى اختلالات أمنية، حيث يعتمد الناس غالبًا على العمل اليومي الذي يؤدونه بأيديهم لكسب ما يكفي لإطعام أسرهم  أو إصابتهم بأمراض لايمكن الوقاية منها.
التأثير المحتمل للمرض على بلدان مختلفة.فقاً للبنك الدولي، فإن البلدان ذات الدخل المنخفض (حيث يقل نصيب الفرد من الدخل عن ألف دولار في السنة) لديها نسب أقل من الناس الذين تزيد أعمارهم عن (65) عاماً (3%) عن الدول الغنية ذات الخصوبة المنخفضة (17%) ونتيجة لذلك، يقدر النموذج الوبائي واسع التأثير، الذي أعده فريق الاستجابة لكوفيد-19 في كلية لندن الإمبراطورية، أن الانتشار الكامل لفيروس كورونا المستجد سيقتل (39,.%) من سكان بنجلاديش و0(21،.%) من سكان الدول الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، وهو ما يقل عن نصف معدل الوفيات البالغ (8،.%) الذي يقدر حدوثه في الولايات المتحدة، ودول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الأخرى.
أثر سياسة التباعد الاجتماعي في المواطنين الفقراء
أعدت جامعة ييل، تقريراً عن آثار الإغلاق الناجم عن فيروس كورونا المستجد على العمالة غير الرسمية في الدول الفقيرة، والتي لا توجد بها شبكات أمان اجتماعي. ولفتت الدراسة إلى أن هذه الفئات مشغولة بمعاشها أكثر مما هي مشغولة بالفيروس، وأنها تتحمل العبء الأكبر لعمليات الإغلاق وتوقف النشاط الاقتصادي ، وفقاً للاختلافات في التركيبة السكانية الخاصة بكل بلد وقدرته على الرعاية الصحية، ومعدلات الإصابة، كما أنه يتوقع ارتفاع معدل الوفيات في البلدان الغنية، رغم التردي النسبي للأنظمة الصحية في الدول الفقيرة. وخلصت الدراسة إلى أنه من المتوقع أن تقلل السياسة الفعالة للتباعد الاجتماعي على نحوٍ مساوٍ من الوفيات المرتبطة بفيروس كورونا بمقدار (1,3) مليون شخص في الولايات المتحدة، و(426) ألف في ألمانيا. بينما مثل هذه السياسة ستنقذ فقط حياة (182) ألف شخص في باكستان و(102) ألف في نيجيريا. والسؤال هو: كم روحًا قد تتعرض للخطر من جراء تطبيق هذه السياسة في تلك البلدان الفقيرة؟. وهنا يبرز سؤال للسطح ويفرض نفسه بقوة كم روحاً تتعرض للخطر من تطبيق هذه السياسة في السودان؟.
قاعدة ذهبية لا تترك الفوائد الكبيرة جدًّا للتباعد الاجتماعي في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية مجالًا للنقاش حول قيمة الصحة العامة لعمليات الإغلاق الواسعة النطاق، وأوامر البقاء في المنزل في تلك المناطق. وأن لا نجعل العلاج أسوأ من المرض، رغم أن المواطنين يريدون أن يكونوا آمنين من المرض، لكنهم لا يريدون أن يكونوا جائعين.
السودان.. الحرمان.. الفيروس
إن صافي المكاسب الناتجة من إنقاذ الأرواح من خلال فرض سياسات صارمة لكبح جماح فيروس كورونا، تعد أكبر في البلدان ذات الدخل المرتفع قياساً إلى البلدان المنخفضة الدخل ، لأن التباعد الاجتماعي يقلل من مخاطر المرض عن طريق الحد من الفرص الاقتصادية المتاحة للناس. فإن الناس الأكثر فقراً يكونون أقل رغبة بطبيعتهم في تقديم تضحيات اقتصادية كبيرة. في الواقع، إنهم يضيفون قيمة أكبر نسبياً على مخاوفهم المعيشية مقارنةً بمخاوفهم من الإصابة بفيروس كورونا. لذلك يكون الحرمان أكثر قسوة من الفيروس. ربما تفرط التقدير في قيمة التباعد الاجتماعي في السودان، قد تؤدي هذه السياسات إلى تأثيرات للأسر الأشد فقراً وضعفاً. خاصة وأن السودان يمثل الفقر فيه الأن نسبة عالية قد تصل إلى (90%) من سكانه حيث لاتتجاوز نسبة الدخل (1000) دولار في العام، علاوة على ان نسبة الطبقعة العمالية (80%) من جملة السكان وتعتمد على  العمل اليومي الذي لا يمكن أداؤه أثناء التباعد الاجتماعي. ومن المرجح أيضًا أن يكونوا يعملون في القطاع غير الرسمي، ويعتمدون على أجر نقدي يومي، ولا يتاح لهم الوصول إلى شبكة أمان اجتماعي. وعلى المدى القصير، سيمنعهم التباعد الاجتماعي من العمل وكسب الرزق، وعلى المدى الطويل يمكن أن يؤدي ذلك إلى الجوع وسوء التغذية، ومشكلات صحية أخرى غير مرتبطة بفيروس كورونا.
هل الدولة مستعدة لتوفير الغذاء للأسر الفقيرة؟
تعتمد التدخلات التي تتضمن تطبيق التباعد الاجتماعي، وفرض تدابير صارمة لكبح الفيروس، على أنظمة الدعم الحكومية، وكانت مدينة ووهان الصينية رائدة في هذا النوع من التدخلات، وهي مطبقة الآن في جميع أنحاء أوروبا، وأجزاء من الولايات المتحدة. وما يزال العديد من العمال في جميع أنحاء أوروبا يتلقون رواتبهم، وسيتلقى دافعو الضرائب الأمريكيون شيكاً تحفيزياً (لاسترداد جزء من الضرائب). على النقيض من ذلك، لا يظهر العمال غير الرسميين في البلدان النامية دائماً في السجلات الحكومية والبيروقراطية. لذلك، حتى في الحالة المستبعدة التي تطبق فيها سياسات التأمين الاجتماعي في هذه البلدان، ليس من الواضح على الإطلاق مدى السرعة التي يمكن بها تحديد ما يتراوح بين 50 إلى 80% من العمال غير الرسميين أو العاملين لحسابهم الخاص في السودان ذات الدخل المنخفض، إذا حدث ذلك أصلًا، لتقديم هذه المساعدات الإغاثية لهم. بالإضافة إلى ذلك، قد يكون لعمليات الإغلاق آثار عكسية؛ إذا أجبرت العاملين في القطاع غير الرسمي والمهاجرين على الهجرة العكسية من المناطق الحضرية المكتظة بالسكان ، ونشر المرض في المناطق الريفية.وبيننا تجربة الهند التي كان لفرض الإغلاق عواقب سلبية على الأفراد الأكثر ضعفًا من سكانها.بالإضافة لما حصل في جنوب إفريقيا.
الوضع في السودان أشبه بالوضع في الدول التي حدثت فيها إنفلاتات أمنية نتيجة الإغلاق الكامل من عمال يومية ومهاجرين يعملون في المنازل والأعمال اليدوية اليومية وغيرها. فالحفاظ على مصدر رزقهم أهم لهم الإجراءات الإحترازية.فإعادة النظر في الإغلاق الكامل أمر ضرورة ودراسة الواقع بشكل متكامل لا يقفل أي جانب يمكن أن يكون ثغرة لعدم الاستقرار .وتنفيذ الأمر دون أن يحدث خلل في الانضباط العام وعدم الإنفلات وتكسير القوانين من قبل الشعب، حتى لا يُضعف هيبة وقوة الدولة وصعوبة تنفيذ قراراتها . ويجب أن نضع في مخيلتنا أنه قد تكون سياسات التباعد الاجتماعي المطبقة في الدول الأوروبية والولايات المتحدة قابلة للتطبيق في أجزاء أخرى من العالم. ولكن إذا كان لا بد من تطبيق التباعد الاجتماعي في السودان، يجب بذل جهود هائلة ومبتكرة لتوفير الغذاء والوقود والنقد للأشخاص الأكثر عرضة لخطر الجوع والحرمان. وهذا يمثل تحدياً خاصاً لنا في السودان بسبب ليس لدينا شبكات أمان اجتماعي حتى في حدها الأدنى. ومن المهم بالنسبة للحكومة، والقطاع الخاص، والجماعات الإنسانية  أن تفعل برامجها ومواعينها الاجتماعية وتوسيعها.
خاتمة
 ولتفادي العبء الواقع على الفقراء أن هناك حاجة عاجلة إلى تقييم جاد لتحديد التدابير الأخرى التي يمكن أن تنقذ الموقف بفعالية، مع تقليل الخسائر ووضع  التدابير للحد من الضرر  بتفعيل البدائل الاجتماعية المتاحة وتكثيف الإعلام المجتمعي لتجنب الإصابات، والتحركات الضرورية فقط دون الحظر الكامل. علاوة على الحملات الإعلامية الرامية لتشجيع السلوكيات التي تبطئ انتشار المرض، ولكنها لا تقوِّض سبل العيش الاقتصادية. ويمكن أن يشمل ذلك فرض قيود على حجم التجمعات الدينية والاجتماعية، أو تنظيم برامج لتشجيع قادة المجتمع ورجال الدين لتبني سلوكيات أكثر أماناً، وإيصالها بوضوح.
لم تعد هذه مجرد مخاوف افتراضية. ولكنها دراسة من الواقع المعاش و عينات تمثيلية لأفراد واستطلاعات عبر الرصد اليومي من بعض الإذاعات المحلية والصحف والمقابلات عن طريق الفضاء السيبراني (وسائل التواصل الاجتماعي)، وننظر من زاوية انعدام الأمن الغذائي ،هي الآن أكبر مخاوف المجتمع وأولويات الأمن المجتمعي إنطلاقاً من الأية الكريمة (أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف).
عموماً :تمثل جائحة فيروس كورونا تهديداً خطيراً للعالم بأسره، لكن هذا التهديد يتخذ شكلاً مختلفاً في كل بلد. علاوة على ذلك، تختلف قدرة المجتمعات على الاستجابة، وتحمُّل تعطيل الأعمال وتكاليف التباعد الاجتماعي اختلافًا كبيرًا. ويجب الموازنة بعناية بين فوائد كل سياسة، والتكاليف والمخاطر الاقتصادية المفروضة على مجتمع معين. وفي حين يتعين على واضعي السياسة التفكير بعناية في هذه الاختلافات، يجب عليهم أيضاً التصرف بسرعة؛ لأن المرض والتدابير المفروضة لاحتوائه تسبب بالفعل معاناة في جميع أنحاء العالم.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق